في الوقت الذي يتزايد فيه الضغط على الموارد الأساسية في سوريا، تواجه البلاد واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية والبيئية في تاريخها الحديث: أزمة المياه. من ريف دمشق إلى الحسكة ودير الزور، وصولًا إلى حلب وإدلب، يعاني ملايين السوريين من نقص حاد في مياه الشرب والري، في ظل تراجع مستوى الأنهار، وتدمير البنية التحتية، والجفاف المناخي، والاستخدام غير المنظم للموارد.
وبينما تتحدث الجهات الرسمية عن مشاريع قيد التنفيذ، يعيش المواطن السوري يوميًا مأساة عطش تتفاقم صيفًا وشتاء، وتترك آثارًا مدمرة على الزراعة، الصحة العامة، والأمن الغذائي. في هذا المقال، نسلط الضوء على جذور الأزمة، مظاهرها، تداعياتها، وأفق الحلول الممكنة.
من نبع الفيجة إلى نهر الفرات: جغرافيا العطش
تمتلك سوريا موقعًا جغرافيًا غنيًا بالموارد المائية من حيث التنوع: أنهار، ينابيع، خزانات جوفية. لكن الحرب، وسوء الإدارة، والتغير المناخي، حولت هذا الغنى إلى شحٍّ كارثي. أبرز المناطق المتأثرة:
1. ريف دمشق ودمشق نفسها
يعتمد سكان العاصمة بشكل رئيسي على نبع الفيجة، الذي تعرض مرارًا للتخريب أو الإغلاق خلال سنوات الحرب. في فصول الصيف، تصل الانقطاعات إلى أيام طويلة دون نقطة ماء واحدة، مما يدفع السكان لشراء المياه من الصهاريج بأسعار باهظة.
2. منطقة الجزيرة السورية (الحسكة ودير الزور والرقة)
تعتمد على مياه نهر الفرات، الذي تراجع منسوبه بشكل خطير، ما أدى إلى تعطيل محطات الضخ، وجفاف حقول القمح والقطن، وتهديد الثروة الحيوانية.
3. شمال سوريا (إدلب وريف حلب)
يعاني من دمار شبه كامل في شبكات المياه، ويفتقر إلى المياه الصالحة للشرب، ما دفع السكان للاعتماد على آبار غير آمنة، وتسبب في تفشي أمراض معوية وجلدية بين الأطفال.
الجفاف المناخي… حرب من نوع آخر
لا يمكن فصل أزمة المياه في سوريا عن التغيرات المناخية العالمية، التي ضربت منطقة الشرق الأوسط بشدة خلال العقدين الأخيرين. السنوات العشر الماضية شهدت انخفاضًا متواصلًا في معدلات الأمطار والثلوج، ما أدى إلى:
-
جفاف الآبار السطحية.
-
تراجع مناسيب المياه الجوفية.
-
تصحر مناطق زراعية كانت سابقًا خضراء.
-
زيادة الاعتماد على مياه ملوثة أو نادرة.
كل هذه العوامل جعلت من الحصول على المياه معركة يومية، خصوصًا في الأرياف والمخيمات والمناطق التي تقع خارج سيطرة الدولة.
الحرب دمرت البنية… ولا إعادة إعمار في الأفق
أحد أهم الأسباب المباشرة للأزمة هو تدمير البنية التحتية المائية خلال الحرب، عبر:
-
استهداف محطات الضخ والتنقية.
-
تدمير أنابيب الشبكات القديمة.
-
غياب الصيانة الدورية.
-
انفصال بعض المحطات عن شبكة الكهرباء.
حتى في المناطق “الآمنة”، ما تزال آبار المياه معطّلة بسبب نقص قطع الغيار، أو الأعطال غير المعالجة، أو ضعف التمويل. كما أن العديد من المشاريع التي أُعلن عنها لإصلاح منظومات المياه لم تُنفّذ فعليًا، إما بسبب الفساد، أو ضعف التنسيق، أو نقص التمويل.
المياه = المال: ظهور سوق سوداء للعطش
مع غياب المياه من الشبكات النظامية، نشأت شبكة موازية من الصهاريج الخاصة التي تبيع المياه بأسعار باهظة. هذه السوق غير المنظّمة، أصبحت مصدر رزق لفئات معينة، لكنها في المقابل تمثل عبئًا ماليًا لا يُطاق على الفقراء، خصوصًا في الأحياء الشعبية ومخيمات النازحين.
وصل سعر متر المياه في بعض المناطق إلى ما يعادل 10 آلاف ليرة سورية، ما يعادل أكثر من نصف دخل موظف حكومي شهريًا، إن أراد تأمين المياه فقط لعائلته.
الزراعة تموت ببطء… والأمن الغذائي في خطر
المياه ليست فقط حاجة إنسانية للشرب والنظافة، بل هي العمود الفقري للزراعة، والتي تشكل بدورها موردًا حيويًا للاقتصاد السوري والأمن الغذائي.
أزمة المياه تعني:
-
تناقص مساحة الأراضي المزروعة.
-
انخفاض إنتاج القمح والخضروات والفاكهة.
-
هجرة الفلاحين إلى المدن.
-
ارتفاع أسعار الغذاء.
-
فقدان الأمن الغذائي الذاتي للبلاد.
وقد بدأت بعض القرى في الجزيرة السورية تتحول إلى مناطق شبه مهجورة، بعدما جفّت الآبار، وتوقفت المضخات، وغادر المزارعون إلى مناطق بحثًا عن عمل أو مياه.
الصحة تحت الحصار المائي
نقص المياه أدى أيضًا إلى كارثة صحية حقيقية:
-
تفشي الإسهال والالتهابات المعوية.
-
أمراض جلدية نتيجة انعدام النظافة.
-
انتشار القمل والجرب في المدارس والمخيمات.
-
صعوبة تعقيم المستشفيات والمراكز الصحية.
وتزداد الخطورة في المخيمات، حيث يعيش مئات الآلاف في خيام أو مساكن مؤقتة، بدون وصول منتظم للمياه، ما يخلق بيئة خصبة لانتشار الأمراض، وخصوصًا بين الأطفال والنساء.
ماذا تفعل الحكومة؟ تصريحات أكثر من أفعال
رغم الاعتراف الرسمي بالأزمة، لم تُقدّم الحكومة السورية حتى الآن خطة وطنية شاملة لمعالجة أزمة المياه. معظم الإجراءات المتخذة هي:
-
التوعية بترشيد الاستهلاك.
-
إطلاق مشاريع حفر آبار جديدة بتمويل محدود.
-
شراء بعض المضخات عبر قروض أو منح منظمات.
-
توزيع مياه بالصهاريج لبعض المناطق لفترات مؤقتة.
لكن هذه الإجراءات غير كافية، لأنها لا تعالج الجذور، ولا تستند إلى رؤية استراتيجية لتأمين المياه على المدى الطويل.
المجتمع المدني والمنظمات: دور محدود تحت الضغط
بعض المنظمات غير الحكومية السورية والدولية تعمل في قطاع المياه، خاصةً في الشمال السوري، وتقوم بـ:
-
حفر آبار جديدة.
-
ترميم شبكات المياه.
-
توزيع عبوات مياه معقّمة في المخيمات.
-
توفير أدوات تعقيم المياه للأسر الفقيرة.
لكن هذه الجهود لا تغطي سوى نسبة محدودة من الحاجة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بالمساعدات المشروطة، أو متأثرة بتقلّبات التمويل والسياسة.
أين الحلول؟ ما الذي يمكن فعله الآن؟
لمواجهة أزمة المياه في سوريا، لا بد من خطة استجابة وطنية تتضمن:
1. إصلاح البنية التحتية المائية
إعادة تأهيل محطات الضخ، تمديد شبكات جديدة، إصلاح الأعطال المتراكمة.
2. تحديث سياسة إدارة المياه
عبر تقنيات الري الحديثة، ترشيد الاستهلاك، فرض رقابة على الآبار العشوائية.
3. التعاون مع المنظمات الدولية
لتمويل مشاريع مياه استراتيجية، مع ضمان الشفافية في التنفيذ.
4. التحرك دبلوماسيًا
لحل الخلافات الإقليمية المتعلقة بتقاسم مياه نهر الفرات، عبر حوار مع تركيا والعراق.
5. حملات وطنية للتوعية
حول أهمية المحافظة على المياه، وتثقيف المجتمعات المحلية بطرق الاستهلاك المستدام.
الخاتمة: عطش وطن
الماء ليس ترفًا، ولا خيارًا، بل حق أساسي من حقوق الإنسان. والأرض التي لا تروى، تموت. والناس الذين يُحرمون من الماء، يُحرَمون من الحياة.
إن سوريا، التي كانت يومًا تُسمّى بـ”سلة الغذاء العربية”، تُواجه اليوم خطر التحول إلى أرض عطشى ومهجورة، ما لم تتخذ خطوات عاجلة، جادة، ومستدامة.
ربما لا يمكن اليوم بناء سدود جديدة، لكن يمكن على الأقل ترميم ما هُدم، وحماية ما تبقى، وإعطاء الماء أولويته الطبيعية: بوصفه حياة، لا مجرد خدمة عامة.