في محافظة السويداء جنوب سوريا، تتصاعد تحذيرات خطيرة من أزمة غذائية وصحية جديدة تهدد قطاع تربية الأبقار والأغنام، حيث أفاد مربو الماشية بانخفاض إنتاج الحليب بنسبة تجاوزت 50% مقارنةً بالأعوام السابقة، وسط أزمة متفاقمة في تأمين الأعلاف، وارتفاع غير مسبوق في أسعار العلف المركب والتبن. هذه الأزمة لا تمس المربين فقط، بل بدأت فعليًا بإلقاء آثارها على الأسواق، وسينعكس استمرارها، بلا شك، على الأمن الغذائي للمواطن السوري.
في هذا المقال، نتناول تفاصيل هذه الأزمة المتصاعدة، أسبابها المتعددة، انعكاساتها الاقتصادية والصحية، وما إذا كانت هناك حلول واقعية في الأفق لتلافي انهيار قطاع حيوي يعتمد عليه عشرات آلاف السكان كمصدر رزق ومعيشة يومية.
بداية الأزمة: حين يجف الضرع
في السابق، كانت محافظة السويداء من المحافظات السورية المعروفة بجودة إنتاجها من الحليب، لا سيما حليب الأبقار البلدي والغنم العواسية. لكن في الأشهر الأخيرة، فوجئ مربو الماشية بتراجع حاد في كمية الحليب التي تنتجها حيواناتهم، رغم اتباعهم نفس أنماط التربية والرعاية.
البعض أرجع السبب إلى سوء التغذية الناتج عن غلاء الأعلاف، والبعض الآخر تحدث عن ظروف مناخية أثرت على الأعشاب البرية، فيما أشار آخرون إلى تعب وإرهاق الماشية بعد سنوات من الجفاف، وغياب الرعاية البيطرية المناسبة.
لكن النتيجة واحدة: إنتاج الحليب انخفض إلى النصف، والأسواق بدأت تعاني من نقص واضح في الحليب الخام، ما انعكس مباشرة على أسعار منتجات الألبان ومشتقاتها مثل اللبنة، الجبنة، والسمن الحيواني.
الأعلاف: الحلقة المفقودة
من الواضح أن العامل الأبرز في الأزمة هو غياب الأعلاف المدعومة وغلاء سعر المتوفر منها. فبعد أن كانت الدولة توفر كميات محدودة من العلف للمربين بأسعار رمزية، توقفت هذه الآلية منذ عامين، وتحول تأمين العلف إلى القطاع الخاص، الذي يستورد كميات محدودة بأسعار مرتفعة.
اليوم، تجاوز سعر طن العلف المركّز حاجز 6 ملايين ليرة سورية، بينما وصل سعر بالة التبن إلى 200 ألف ليرة، وهو ما يعجز مربو الماشية الصغار عن تحمله. فصاحب قطيع من 20 رأسًا مثلاً، يحتاج شهريًا إلى تغذية تكلف أكثر من دخله السنوي، مما يدفعه إلى خيارين أحلاهما مرّ: إما بيع قسم من القطيع، أو تقليص كمية العلف، ما يؤدي بالضرورة إلى تراجع إنتاج الحليب.
ولأن معظم المربين في السويداء من الفلاحين البسطاء الذين يعتمدون على إنتاج الحليب لتأمين دخلهم اليومي، فإن الأزمة تزداد تعقيدًا يومًا بعد آخر، وتهدد بفقدان هذا القطاع الزراعي لجزء كبير من قواه الإنتاجية.
أسعار الحليب ومشتقاته… نار لا تطاق
في الأسواق، ارتفع سعر كيلو الحليب الخام من 3,000 ليرة إلى نحو 7,000 ليرة في أقل من شهرين، وارتفعت أسعار الأجبان والألبان بنسبة تتراوح بين 40% إلى 60%. وأصبحت علبة اللبنة أو قطعة الجبنة خارج قدرة الكثير من الأسر، حتى في المناطق الريفية التي كانت تعتمد على منتجاتها المنزلية.
الملفت أن هذا الارتفاع لا يعود فقط إلى قلة العرض، بل إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج أيضًا. فالمنتج المحلي يضطر لشراء العلف الغالي، أو الاعتماد على كميات محدودة من الأعشاب البرية الجافة، ما يؤثر سلبًا على جودة الحليب، ويجبره على رفع السعر لتعويض النفقات.
وهكذا، تحول منتج الحليب، الذي كان يُباع في الطرقات بسعر زهيد قبل أعوام، إلى سلعة شبه فاخرة على مائدة المواطن السوري.
الحلول المؤقتة… هل تكفي؟
أمام هذا الواقع، بدأ بعض المربين بمحاولات فردية لإيجاد بدائل، مثل:
-
استخدام بقايا المحاصيل الزراعية كعلف بديل، مثل أوراق الفول، ونشارة الخشب الممزوجة بالماء.
-
تبادل الأعلاف بين المزارعين، بنظام المقايضة، كأن يمنح أحدهم الآخر كمية من العلف مقابل حليب أو عمل يدوي.
-
تجفيف الحليب لتخزينه في حال توفر كميات جيدة لفترات قصيرة.
لكن هذه الحلول، رغم ابتكارها، لا يمكن أن تعوّض عن الحاجة الفعلية إلى نظام دعم منظم للأعلاف، ولا يمكن أن تُبنى عليها خطط استدامة طويلة الأجل.
دور الحكومة الغائب… والحاضر الخجول
حتى الآن، لم تصدر الحكومة السورية أي خطة واضحة لمواجهة هذه الأزمة، واكتفت بعض الجهات بالإعلان عن نوايا لتوفير الأعلاف “عند توفر الإمكانيات”. في حين أن المربين يؤكدون أن الإجراءات الرسمية لا تزال بطيئة، ومتأخرة عن الواقع الذي يعيشونه.
ويطالب أهالي السويداء بضرورة:
-
إعادة دعم الأعلاف بشكل جزئي على الأقل، للمربين الذين يملكون أعدادًا صغيرة.
-
استيراد كميات طارئة من الأعلاف وتوزيعها عبر اتحادات الفلاحين.
-
تقديم دعم بيطري حقيقي عبر مراكز صحية متنقلة.
-
دعم معامل الألبان الصغيرة وتشجيع التصنيع المنزلي كمصدر دخل بديل.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي للأزمة
لا تقتصر آثار هذه الأزمة على المزارعين فقط، بل تمتد إلى الأسواق، والمستهلكين، والعمالة الريفية، وحتى على التوازن الغذائي للأطفال، حيث تعتبر الألبان مصدرًا رئيسيًا للبروتين والكالسيوم.
وفي حال استمرت الأزمة، فإن ذلك سيفاقم:
-
معدلات سوء التغذية في بعض المناطق، خاصة للأطفال.
-
تراجع دخل العائلات الريفية، وانهيار مشاريع صغيرة كانت تعيش على بيع الحليب.
-
زيادة الاستيراد من الدول المجاورة لتعويض النقص، مما يشكّل عبئًا على خزينة الدولة.
-
تقلّص القطيع الوطني نتيجة ذبح الأبقار لعدم القدرة على إطعامها.
تجربة من الميدان: قصة أبو ناصر
أبو ناصر، مربٍ من ريف السويداء، يملك 15 رأسًا من البقر، اعتاد أن يبيع يوميًا نحو 100 ليتر من الحليب لسوق المدينة. يقول إنه كان يكسب ما يعادل راتب موظف متوسط شهريًا، وكان راضيًا. اليوم، بالكاد ينتج 30 ليترًا في اليوم، ولا يستطيع شراء العلف سوى كل أسبوعين.
اضطر أبو ناصر لبيع 5 رؤوس من القطيع ليؤمّن العلف للباقي، ويقول إنه يفكر في بيع كل شيء وترك المهنة التي ورثها عن والده. “الحليب ما عاد يطعمي خبز”، هكذا يختصر مشكلته، ويضيف أن الحلول الرسمية مجرد كلام في الهواء.
هل ما زال بالإمكان إنقاذ القطاع؟
رغم كل ما سبق، لا يزال هناك أمل في إنقاذ قطاع تربية الماشية في السويداء، بشرط توفر الإرادة السياسية والموارد:
-
استيراد الأعلاف بشكل مدعوم من دول حليفة أو عبر منظمات أممية.
-
إعادة تنشيط التعاونيات الزراعية وتقديم تسهيلات قروض للمربين.
-
تشجيع التصنيع المحلي للأعلاف باستخدام منتجات ثانوية للزراعة والصناعة.
-
إطلاق حملة وطنية لدعم منتجات الحليب وتشجيع المستهلك على الشراء المباشر من المزارع.
-
دعم الرعاية البيطرية لتقليل الأمراض وزيادة الإنتاج.
خاتمة: حليب الوطن… إنذار مبكر
ما يحدث في السويداء ليس مجرد أزمة محلية في قطاع إنتاج الحليب، بل هو ناقوس خطر ينذر بإمكانية تفكك منظومات الإنتاج الغذائي في سوريا. فإذا عجز المزارع عن إطعام بقرة، فكيف سنطلب منه أن ينتج وطنًا مكتفيًا ذاتيًا؟
حليب السويداء اليوم ليس مجرد مشروب أبيض، بل مرآة لوضع اقتصادي قاتم، وملف يجب أن يُفتح على أوسع نطاق من قبل الحكومة والجهات المعنية، لأن خسارة هذا القطاع لا تعني فقط ضياع مصدر رزق، بل تهديدًا لواحد من أهم عناصر الأمن الغذائي الوطني.