في تطور جديد يعكس تصاعد القلق الإقليمي من تهريب المخدرات عبر الحدود السورية، أعلن الجيش الأردني عن إحباط محاولة تسلل جديدة قادمة من الأراضي السورية، ضُبط خلالها عدد من المهربين وشحنات ضخمة من حبوب الكبتاغون كانت معدّة للتهريب إلى داخل الأردن، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك. هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، بل تُضاف إلى سلسلة عمليات متكررة باتت شبه يومية على امتداد الحدود السورية الأردنية، التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى نقطة ساخنة لتجارة المخدرات الإقليمية.
ما بين التسلل الليلي والاشتباكات المسلحة ومصادرة الشحنات، بات ملف “الكبتاغون السوري” من أكثر القضايا حضورًا على طاولة العلاقات بين عمان ودمشق، وواحدًا من أبرز التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه دول الجوار. في هذا المقال، نسلط الضوء على أبعاد هذه الأزمة المتفاقمة، من الجذور إلى التداعيات، مرورًا بالمصالح المتشابكة والقوى المتورطة.
الكبتاغون السوري: من دواء إلى تجارة سموم
في الأصل، الكبتاغون هو اسم تجاري لمادة فينيثيلين، وهي مركب منشط للجهاز العصبي المركزي، استُخدم طبيًا لعلاج فرط النشاط وبعض اضطرابات النوم، لكن سرعان ما تحولت هذه المادة إلى مخدر خطير يُصنع بطرق غير قانونية، وتُباع تحت أسماء متعددة.
في سوريا، ومع تفاقم الحرب وتفكك الرقابة الأمنية، انتقل الكبتاغون من حالة محدودة إلى صناعة كاملة الأركان، تُنتج في معامل سرية داخل المناطق الحدودية أو حتى في بعض المناطق المحمية. ومع مرور الوقت، أصبحت البلاد تُعرف إقليميًا بأنها المصدر الأكبر لحبوب الكبتاغون في الشرق الأوسط، بل وُصفت بـ”دولة مخدرات صاعدة”.
الحدود الأردنية… الحاجز الأخير قبل الخليج
تمتد الحدود بين الأردن وسوريا على طول نحو 375 كم، تمرّ بصحراء قاحلة ومناطق جبلية ومساحات واسعة خالية من السكان، ما يجعلها بيئة مثالية لعمليات التهريب، خصوصًا مع تراجع سيطرة الدولة السورية على بعض المناطق القريبة من هذه الحدود.
الأردن، الذي لطالما اعتبر نفسه حاجزًا دفاعيًا للخليج العربي، يُدرك تمامًا أن معظم شحنات الكبتاغون لا تستهدف السوق الأردنية فقط، بل تستخدم أراضيه كممر عبور نحو السعودية، الإمارات، والكويت، حيث السوق الأعلى سعرًا والأكثر طلبًا.
لذلك، تعامل الجيش الأردني مع هذا الملف على أنه قضية أمن قومي من الطراز الأول، وأطلق منذ عام 2022 عمليات نوعية على الحدود، استخدم فيها طائرات بدون طيار، أجهزة استشعار حراري، وحتى آليات عسكرية ثقيلة، لمواجهة ما وصفه مسؤولون أردنيون بأنه “حرب تهريب منسقة”.
من يقف خلف التهريب؟ الشبكات المظلمة
الإجابة على هذا السؤال لا تبدو بسيطة، لأن خيوط التهريب تتشابك بين أطراف متعددة:
-
شبكات منظمة داخل سوريا، يُعتقد أنها مدعومة من جهات لها نفوذ عسكري أو اقتصادي، وتملك مصانع وتسهيلات لوجستية.
-
ميليشيات محلية تستخدم التهريب كمصدر تمويل في ظل تراجع الدعم العسكري أو السياسي.
-
تجار منفردون يعملون ضمن حلقات أوسع، ويُستغلون كناقلين مقابل مبالغ مالية أو حوافز أخرى.
-
جهات خارجة عن القانون داخل الأردن، تسهّل أحيانًا استلام وتسليم الشحنات، أو تتواطأ مع المهربين لتجاوز الحواجز.
وتشير تقارير إقليمية إلى أن قيمة تجارة الكبتاغون القادمة من سوريا تُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا، مما يجعلها شبكة موازية للاقتصاد الرسمي، وتتمتع بحماية في بعض المناطق، أو على الأقل بـ”غض الطرف”.
تداعيات خطيرة على الأردن والمنطقة
الكم الهائل من حبوب الكبتاغون الذي تم ضبطه على الحدود – والذي وصل أحيانًا إلى أكثر من مليون حبة في شحنة واحدة – يُنذر بخطر اجتماعي وأمني حقيقي، لا سيما في بلد مثل الأردن يعاني من بطالة مرتفعة، ونسبة كبيرة من الشباب.
إدخال هذه الحبوب إلى السوق الداخلية يعني:
-
زيادة معدلات الإدمان والجريمة.
-
تهديد الصحة العامة والعقلية لجيل كامل.
-
خلق اقتصاد مظلم يوازي الاقتصاد الرسمي.
-
تقويض هيبة الدولة وتشجيع الفساد والرشاوى.
أما إقليمياً، فإن استمرار تدفق الكبتاغون عبر الأردن يعني توتير العلاقات مع دول الخليج، واتهام عمان بالعجز أو التواطؤ، وهو ما ترفضه الحكومة الأردنية بشدة، مؤكدةً أنها تدفع “كلفة أمنية ومادية عالية” لمواجهة التهريب.
ما موقف دمشق؟ الغموض سيد الموقف
في العلن، تُعلن الحكومة السورية أنها ضد تهريب المخدرات، وتُبدي استعدادها للتعاون الأمني مع الأردن ودول الجوار، وتؤكد على ضرورة احترام السيادة والتنسيق المشترك.
لكن في الواقع، تُواجه دمشق اتهامات غير مباشرة ومباشرة من قِبل جهات إعلامية ودبلوماسية تشير إلى تواطؤ أو تقاعس في كبح تجارة الكبتاغون. حتى الآن، لم تُقدّم السلطات السورية أي أدلة على تفكيك معامل رئيسية أو توقيف شخصيات بارزة متورطة في التهريب، مما يُبقي الشكوك قائمة حول مدى الجدية في التعامل مع الملف.
بعض المحللين يرون أن سوريا قد تستخدم ملف الكبتاغون كورقة تفاوض سياسية واقتصادية، سواء للضغط على دول الجوار، أو للتفاوض مع دول كبرى لرفع العقوبات مقابل وقف التهريب.
الدور الدولي: جهود محدودة واستجابة بطيئة
رغم اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخطورة تجارة الكبتاغون السورية، فإن الردود العملية لا تزال محدودة. صحيح أن بعض العقوبات فُرضت على شخصيات سورية متهمة بالتورط في تجارة المخدرات، لكن ذلك لم يوقف تدفق الحبوب، ولم يُحقق تأثيرًا ملموسًا على الأرض.
ما تحتاجه المنطقة هو:
-
إطلاق تحقيق دولي واسع النطاق حول مصادر الكبتاغون.
-
تمويل برامج مكافحة المخدرات في الأردن وسوريا ولبنان.
-
توفير دعم تقني ولوجستي لفرق المراقبة الحدودية.
-
تعزيز آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول.
الحلول المقترحة: من الردع إلى الوقاية
إذا أراد الأردن أن يُوقف سيل المخدرات القادمة من سوريا، فعليه أن يُكثف من جهوده على عدة مسارات:
-
المراقبة الجوية والبحرية والبرية المتكاملة باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
-
التعاون الميداني مع العشائر والمجتمعات المحلية في مناطق الحدود، لتوفير معلومات وتحذيرات مبكرة.
-
سن قوانين صارمة على حيازة وترويج الكبتاغون داخل البلاد.
-
تشجيع البرامج الوقائية والإرشادية في المدارس والجامعات.
-
خلق قنوات حوار مباشرة مع الحكومة السورية بعيدًا عن التصعيد، لكن ضمن شروط واضحة.
الخاتمة: قنبلة اسمها الكبتاغون
في زمن الحرب، تُستخدم الأسلحة لتدمير الأجساد. أما اليوم، فيُستخدم الكبتاغون لتدمير العقول والمجتمعات. ما يحدث على الحدود بين سوريا والأردن ليس مجرد عمليات تهريب، بل حرب صامتة تُهدد استقرار المنطقة، وتضرب في صميم الإنسان والأمن والاقتصاد.
وما لم تتخذ الدول المعنية – وفي مقدمتها سوريا – موقفًا جديًا وواضحًا، فإن حبوب الكبتاغون ستظل تتدفق، وستظل تدفع الأردن ثمنًا باهظًا لموقعه الجغرافي ووقوفه في وجه هذه التجارة القاتلة.