على وقع أصوات الانهيار الاقتصادي، وانعدام الخدمات، وغياب الأفق السياسي، تعود موجة الهجرة الجماعية من سوريا إلى الواجهة، ولكن هذه المرة بطابع مختلف عن سنوات الحرب الساخنة. ففي حين كانت الموجات السابقة مدفوعة بالقصف والنزوح القسري، فإن الموجة الحالية ترتكز إلى أسباب معيشية وإنسانية عميقة، تجعل السوريين يختارون الرحيل عن وطنهم حتى لو لم تُلقَ عليهم القنابل، لأنهم فقدوا مقومات الحياة الأساسية.
من دمشق إلى حلب، ومن الساحل إلى الجزيرة، يتكرر المشهد ذاته: طوابير أمام مكاتب الجوازات، وطلبات للحصول على فيزا إلى أي بلد، وأحاديث يومية في المقاهي والمنازل عن “الفرصة الأخيرة للهروب”. إنها هجرة الصامتين، واليائسين، والناجين من حرب لم تنتهِ في حقيقتها، بل تحوّلت إلى نزيف يومي في الراتب، والخدمات، والكرامة.
في هذا المقال، نستعرض العوامل المحركة لهذه الموجة الجديدة، خصائصها، وجهاتها، والآثار التي تتركها على الداخل السوري ومستقبل البلاد.
الهجرة الجديدة: من يهاجر اليوم؟ ولماذا؟
خلافاً لما كان عليه الحال بين 2012 و2016، حين كانت الهجرة مرتبطة مباشرة بالنزاع المسلح، فإن الموجة الحالية تشهد تحرك فئات جديدة من المجتمع، أبرزها:
1. الطبقة الوسطى المحبطة
موظفون حكوميون، مهنيون، معلمون، وأصحاب مهن حرّة كانوا يشكلون نواة الاستقرار المجتمعي، باتوا اليوم الأكثر رغبة في الهجرة بسبب انهيار القيمة الشرائية للرواتب، وتراجع جودة الحياة.
2. الكوادر المتخصصة
أطباء، مهندسون، محامون، أساتذة جامعيون، ممن فقدوا الإيمان بقدرة المؤسسات على الإصلاح، ويبحثون عن بيئة عمل تضمن لهم الحد الأدنى من الاحترام المهني.
3. الشباب الجامعي
الجيل الذي نشأ في ظل الحرب وانعدام الأمل، ولم يجد في بلاده فرصة عمل أو أفق حياة، يرى في الهجرة نافذة لبناء مستقبل، حتى إن اضطر لعبور البحر أو العمل في المهن البسيطة.
4. العائلات المتوسطة الحال
التي باتت غير قادرة على تأمين الطبابة أو التعليم الجيد لأبنائها، وتسعى للهجرة الجماعية إلى دول الجوار أو أوروبا، مهما كانت التكاليف.
الأسباب العميقة للهجرة
1. الانهيار الاقتصادي
مع وصول سعر صرف الليرة السورية إلى مستويات غير مسبوقة، وغلاء المعيشة الخانق، بات تأمين الغذاء والدواء مسألة يومية مرهقة. راتب موظف حكومي بالكاد يكفي لشراء عبوة زيت وعلبة حليب.
2. تدهور الخدمات الأساسية
انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يومياً، نقص المياه، انعدام التدفئة، ورداءة الإنترنت، تجعل العيش في بعض المدن السورية تحدياً أقرب إلى “البقاء البيولوجي” لا الحياة الكريمة.
3. انسداد الأفق السياسي
الجمود السياسي، غياب الإصلاحات، التضييق على الحريات، وغياب أية رؤية وطنية للخروج من الأزمة، يجعل الناس يشعرون أنهم يعيشون في نفق بلا نهاية.
4. ضعف التعليم والرعاية الصحية
المستشفيات العامة شبه معطّلة، والأدوية باهظة أو مفقودة، والتعليم الجامعي متردٍ لدرجة تدفع الطلاب إلى التفكير بالهجرة حتى قبل التخرج.
5. الحنين إلى الاستقرار
العديد من العائلات فقدت شعورها بالأمان الاجتماعي. فمع انتشار الجريمة، والفقر، وغياب القانون، باتت تسعى إلى دول تؤمن الحد الأدنى من الاستقرار ولو كان ذلك في مجتمعات غريبة.
الوجهات الجديدة: إلى أين يهاجر السوريون اليوم؟
رغم تعقيد إجراءات السفر، وعدم سهولة التنقل، إلا أن السوريين ينجحون – بعزيمة لا تُصدق – في إيجاد منافذ للهجرة. أبرز الوجهات اليوم:
-
أربيل وتركيا: بوصفها محطات مؤقتة للهجرة إلى أوروبا، أو كمكان للإقامة والعمل.
-
ليبيا والسودان: رغم عدم الاستقرار السياسي فيهما، إلا أنهما باتا ملاذًا سهلًا نسبيًا لمن لا يملك فيزا.
-
مصر: بفعل الروابط الاجتماعية وانخفاض تكاليف المعيشة نسبيًا.
-
ألمانيا وهولندا وكندا: عبر برامج اللجوء أو لمّ الشمل، رغم صعوبة الشروط والإجراءات.
-
الهجرة غير النظامية: ما زالت ممرات البحر نحو قبرص أو اليونان فاعلة، رغم مخاطره القاتلة.
طرق الهجرة: قانونية، وشبه قانونية، وغير شرعية
1. الهجرة القانونية
تتم عبر طلبات لمّ الشمل، الفيز السياحية أو الدراسية، وعقود العمل الرسمية في دول معينة، لكنها تتطلب شروطًا صعبة وتكلفة مالية عالية.
2. الهجرة عبر التهريب
يلجأ البعض إلى المهربين لدخول تركيا أو أوروبا، بكلفة تصل إلى 5,000 دولار، عبر طرق بحرية أو برية محفوفة بالمخاطر.
3. طلب اللجوء الإنساني
يُقدم عليه الكثيرون عند الوصول إلى بلد أوروبي، بعد أن يبرروا حاجتهم للحماية، بسبب الحرب أو التهديد أو الاضطهاد.
تأثير الهجرة على الداخل السوري
الهجرة الجماعية التي تشهدها البلاد اليوم تترك آثارًا عميقة على المجتمع:
1. نزيف الكفاءات
خسارة أطباء، مهندسين، مدرسين، وأكاديميين، سيجعل من إعادة الإعمار تحديًا أكبر مستقبلاً.
2. خلل ديموغرافي
ازدياد نسبة كبار السن في الداخل، مقابل خروج فئة الشباب، يُضعف سوق العمل، والقدرة الإنتاجية.
3. تفكك العائلات
الكثير من العائلات تفترق بين الداخل والخارج، مما يُضعف الروابط الاجتماعية ويفتح الباب أمام مشاكل نفسية وتربوية.
4. اعتماد متزايد على الحوالات
بات الاقتصاد المنزلي في سوريا يعتمد بشكل كبير على الحوالات المالية من المهاجرين، التي تشكل شريان حياة للأسر، ولكنها ليست بديلًا عن اقتصاد منتج.
الهجرة ليست حلمًا ورديًا
رغم أن الهجرة تُقدَّم كخلاص، إلا أنها ليست دائمًا خيارًا سهلًا أو مضمونًا. العديد من السوريين في الخارج:
-
يعانون من صعوبات الاندماج.
-
يعملون في مهن شاقة أو لا تليق بكفاءاتهم.
-
يواجهون صدمات نفسية وغربة طويلة الأمد.
-
يتعرضون للعنصرية أو العزلة الاجتماعية.
-
لا يستطيعون العودة لأسباب أمنية أو قانونية.
ومع ذلك، فإن كثيرًا منهم يفضل هذا الواقع القاسي على البقاء في ظروف مأساوية داخل سوريا.
هل من أمل في وقف النزيف؟
حتى الآن، لا مؤشرات على أي تغيير حقيقي في السياسات العامة التي قد تدفع الناس للبقاء. لكن يمكن اتخاذ خطوات، إن وُجدت الإرادة، منها:
-
تحسين بيئة العمل، ورفع الرواتب.
-
إطلاق مشاريع اقتصادية صغيرة موجهة للشباب.
-
إصلاح الخدمات الأساسية، خصوصًا الكهرباء والمياه والتعليم.
-
فتح أفق سياسي يبعث الأمل والثقة لدى المواطنين.
-
دعم مشاريع العودة الطوعية للمغتربين عبر حوافز جدية.
الخاتمة: عندما تصبح الهجرة وطنًا
الهجرة في سوريا لم تعد قرارًا استثنائيًا، بل باتت واقعًا يوميًا يشبه “التحول الوطني الصامت”. لا أحد يترك بلاده حبًا في الغربة، لكن من يعيش في بلدٍ لم يعد يعترف بحاجات أبنائه الأساسية، ولا يحترم عقولهم ولا أجسادهم، سيغادر ولو إلى المجهول.
ومع كل طائرة تقلع، أو قارب يبحر، أو جواز يُطبع، تُغادر قطعة من الوطن، وتبقى الأسئلة معلقة: من سيبقى؟ وماذا سيبقى؟ وهل يمكن للوطن أن يُبنى من جديد إذا هجره بنوه؟