في مشهد جديد من مشاهد التوتر السياسي الذي لا يكاد يغيب عن المشهد السوري، أطلق الرئيس السوري أحمد الشرع تحذيرًا لافتًا، معربًا عن رفض بلاده القاطع لأي مشاريع انفصالية تهدف إلى إعادة رسم خارطة البلاد بعيدًا عن وحدة ترابها. جاءت تصريحاته ردًا على ما تم تداوله مؤخرًا من دعوات أطلقتها قيادات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لبحث إقامة نموذج فيدرالي في شمال وشرق سوريا.
أثار موقف الشرع الكثير من النقاش داخل وخارج سوريا، حيث يرى البعض أن المسألة قد تدخل البلاد في موجة جديدة من التصعيد السياسي وربما العسكري، فيما يعتبر آخرون أن التحذير الصارم يأتي في إطار الحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع تفكك الكيان السوري بعد أكثر من عقد من النزاع والاضطراب.
التصعيد اللفظي والرمزية السياسية
تصريحات الشرع لم تأتِ في سياق عابر أو خلال لقاء روتيني، بل اختار إطلاقها خلال كلمة رسمية موجهة للشعب السوري بمناسبة وطنية، ما أعطاها بعدًا رمزيًا إضافيًا. أصر الرئيس الجديد، الذي يمثل مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، على أن وحدة البلاد “ليست قابلة للتفاوض ولا للمساومة تحت أي ظرف”، وأكد أن أي مبادرات خارج الإطار الوطني الموحد مرفوضة شكلاً ومضمونًا.
لم يكن اختيار التوقيت عفويًا، فالكثير من المراقبين يعتقدون أن تحرك قسد الأخير، سواء عبر خطابات أو لقاءات عقدتها في مناطق الإدارة الذاتية، جاء متزامنًا مع حالة السيولة السياسية في المنطقة. ومع بدء بعض الدول بإعادة تطبيع العلاقات مع دمشق، يبدو أن قسد شعرت بأنها قد تخسر أوراق الضغط التي راكمتها خلال سنوات الحرب، فبادرت لطرح مشروع الفيدرالية كحلٍ يضمن بقاءها لاعبًا سياسيًا قويًا داخل سوريا المستقبلية.
قسد بين الطموح والواقع
منذ تأسيسها، قدّمت قسد نفسها بوصفها قوة دفاعية، هدفها حماية سكان شمال وشرق سوريا من تهديدات الإرهاب ومنع عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). غير أن طموحاتها السياسية سرعان ما اتسعت، لتتحول إلى مشروع إدارة ذاتية واسعة، ثم إلى مطالبات بفيدرالية رسمية معترف بها دستوريًا.
لكن الطموح لا يلغي الواقع، وهو واقع معقد تحكمه حسابات إقليمية ودولية دقيقة. فمع تراجع الوجود العسكري الأمريكي في بعض النقاط وتغير أولويات التحالف الدولي، أصبح واضحًا أن قسد لم تعد تحظى بالدعم المطلق الذي تمتعت به سابقًا. كما أن التجاذبات مع تركيا، الرافضة تمامًا لأي كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية، تضيف ضغطًا متزايدًا على قيادة قسد.
من هنا يمكن قراءة تصريحات الشرع باعتبارها رسالة واضحة: أي محاولة لفصل جزء من سوريا تحت أي مسمى، حتى لو كان “فيدرالية”، ستُواجه برد قاسٍ. الرسالة لم تُرسل فقط إلى قسد بل إلى القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالملف السوري.
معركة دستورية أم صراع عسكري قادم؟
تبقى التساؤلات قائمة: هل نحن أمام معركة قانونية دستورية داخل أروقة لجان الحوار السياسي؟ أم أن الأمور ستتجه نحو التصعيد الميداني؟
من الناحية النظرية، تسعى دمشق إلى استعادة سيادتها على كامل الأراضي السورية عبر الوسائل السياسية إن أمكن، لكنها، كما ألمح الشرع، لن تتردد في استخدام وسائل أخرى لو اقتضى الأمر. بعبارة أوضح، السيناريوهات تتراوح بين إقناع قسد بالتخلي عن مشروع الفيدرالية مقابل ضمانات سياسية واجتماعية، أو استخدام القوة لاستعادة السيطرة المباشرة.
حتى الآن، تعتمد قسد على دعم غربي محدود لكنها تسعى إلى تحصين وجودها عبر اتفاقات محلية أو ترتيبات مع دمشق نفسها، وهو خيار قد يكون الأكثر واقعية إذا ما تم تحت سقف الدولة السورية الواحدة.
نظرة إلى الداخل السوري
تصريحات الشرع كان لها صدى واسع داخل الأوساط الشعبية السورية، خصوصًا بين الفئات التي عانت ويلات الحرب وترى في وحدة البلاد أملًا لبناء المستقبل. في مدن مثل دمشق وحمص وحلب، عبّر كثير من المواطنين عن دعمهم لأي خطوات تهدف للحفاظ على وحدة سوريا، حتى لو تطلب الأمر مواجهة مشاريع التقسيم بالقوة.
في المقابل، هناك من يطرح تساؤلات مشروعة عن كيفية تحقيق هذه الوحدة بصورة عادلة، تأخذ بعين الاعتبار التعددية الإثنية والثقافية للمجتمع السوري، وتضمن حقوق جميع المكونات دون تهميش أو إقصاء.
هذه النقطة تحديدًا ستكون تحديًا حقيقيًا لصانع القرار السوري؛ فالمطلوب ليس فقط استعادة الجغرافيا بل أيضًا بناء عقد اجتماعي جديد يحترم التنوع ويوحد الشعب على أساس العدالة والمساواة.
الموقف الإقليمي والدولي
لم تمر تصريحات الشرع مرور الكرام على العواصم المعنية بالملف السوري. ففي أنقرة، جددت الحكومة التركية رفضها لأي صيغة حكم ذاتي كردي قرب حدودها، معتبرة أن مثل هذه المشاريع تهدد أمنها القومي. أما في واشنطن، فاكتفت بعض الأوساط السياسية بالتعبير عن قلقها من احتمال اندلاع مواجهات جديدة، فيما بدا أن الموقف الأوروبي يتجه نحو الحذر والترقب، في ظل انشغال أوروبا بملفات أخرى ملحة.
روسيا، الحليف الأبرز لدمشق، أبدت دعمًا ضمنيًا لموقف الشرع، إذ ترى موسكو أن أي محاولة لتقسيم سوريا تتعارض مع مبادئ وحدة الأراضي التي لطالما دافعت عنها في مجلس الأمن وعلى طاولة المفاوضات.
نحو أي أفق؟
التحذيرات السورية الصارمة تعني أن الأشهر القادمة ستكون حاسمة في رسم معالم العلاقة بين دمشق وقسد. فإذا ما استمرت قسد بالتمسك بمشروع الفيدرالية دون تنسيق مع الدولة السورية، فإن احتمالات المواجهة سترتفع بشكل كبير. أما إذا تم التوصل إلى تفاهمات جديدة، فقد نشهد ولادة صيغة حكم لا مركزي موسع تحت السيادة السورية، توازن بين حاجات المركز وطموحات الأطراف.
في كل الأحوال، بات واضحًا أن مرحلة “التجميد” التي عاشتها العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية قد انتهت، ودخل الجميع مرحلة “التقرير الحاسم” لمصير شمال وشرق البلاد.
خاتمة
تصريحات الشرع حول “رفض الفيدرالية” ليست مجرد موقف سياسي عابر بل إعلان نوايا صارم يحدد الخطوط الحمراء لمستقبل سوريا. وبين طموحات قسد، وضغوط الإقليم، وانتظارات الشعب السوري، تبقى الوحدة الوطنية الرهان الأكبر الذي ستُبنى عليه استحقاقات المرحلة القادمة.
وربما تكون الأشهر المقبلة حافلة بالمفاوضات والاختبارات الكبرى… فهل ستنتصر لغة الحوار والعقل، أم سنشهد جولة جديدة من الصراع في ساحة أنهكتها الحروب بما فيه الكفاية؟