في واحدة من أكثر الخطوات الدبلوماسية إثارة للجدل في الشأن السوري خلال السنوات الأخيرة، أعلنت بريطانيا عن رفع حزمة من العقوبات التي كانت مفروضة على كيانات حكومية سورية، أبرزها وزارتي الدفاع والداخلية. هذه الخطوة، التي اعتُبرت انقلابًا في السياسة البريطانية تجاه دمشق، قوبلت بترحيب واسع في الأوساط الرسمية السورية، حيث اعتبرتها الحكومة بداية لانفراجة سياسية واقتصادية قادمة، وخطوة تُعيد سوريا إلى الساحة الدولية من جديد.
لكن في المقابل، أثارت هذه الخطوة الكثير من التساؤلات: هل هي بداية لتطبيع أوسع مع النظام السوري؟ أم مناورة سياسية لها حسابات خفية؟ ولماذا الآن؟ في هذا المقال نغوص في أبعاد هذه الخطوة من مختلف الزوايا، ونحاول فهم خلفياتها وتداعياتها المحتملة على الداخل السوري والخارج.
من المقاطعة إلى التخفيف: مسار متغير
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كانت بريطانيا من أكثر الدول تشددًا في موقفها من النظام السوري. فرضت عقوبات قاسية على أفراد ومؤسسات، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية، وشاركت في الجهود الغربية لعزل دمشق سياسيًا واقتصاديًا. ورغم تغير الحكومات البريطانية، ظل الموقف العام ثابتًا على دعم المعارضة السورية ورفض أي تطبيع دون عملية انتقال سياسي واضحة.
لكن مع تغير الأولويات الدولية، وتبدل خريطة التحالفات، بدأت بعض الإشارات تظهر على تبدل الموقف البريطاني، وإن بشكل تدريجي. وها هي بريطانيا، في أبريل 2025، تعلن رفع عقوبات عن وزارتي الدفاع والداخلية في سوريا، وهما وزارتان لطالما اعتُبرتا “رمزي الشرعية الأمنية للنظام”، الأمر الذي يعكس تحولًا نوعيًا في النظرة إلى الدولة السورية.
خلفيات القرار البريطاني
لعل السؤال الأبرز هو: لماذا الآن؟ ولماذا تحديدًا وزارتي الدفاع والداخلية؟
التحليلات تتحدث عن عدة عوامل مترابطة، أبرزها:
-
الهواجس الأمنية المشتركة: مع تصاعد موجات الهجرة غير النظامية، وعودة بعض خلايا الإرهاب إلى النشاط في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، وجدت بريطانيا نفسها بحاجة إلى تنسيق أمني مع دول عدة، من بينها سوريا، خاصة في ما يتعلق بتتبع تحركات “العائدين” من مناطق النزاع.
-
تراجع الأولوية السورية في السياسة الدولية: منذ الحرب في أوكرانيا، والصراع في غزة، وتوترات بحر الصين، تراجعت سوريا من سلم أولويات الغرب. هذا التراجع أفسح المجال لإعادة تقييم العلاقات بما يخدم المصالح القومية أكثر من المبادئ السياسية.
-
ضغط اقتصادي داخلي بريطاني: العقوبات الغربية على عدد من الدول، بينها روسيا وإيران، أدت إلى ضغوط اقتصادية داخلية في بريطانيا، ما جعل الحكومات تبحث عن حلول وسط تعيد فتح قنوات التجارة والاستثمار، وإن بشكل محدود، حتى مع أنظمة كانت حتى الأمس القريب في خانة “المحظورين”.
-
حالة التماهي مع بعض الدول الأوروبية: في الآونة الأخيرة، لوحظ أن دولًا مثل إيطاليا والنمسا بدأت تُليّن مواقفها من دمشق، بل وتشارك في مؤتمرات إعادة الإعمار. بريطانيا، التي لا ترغب في أن تبقى خارج اللعبة، ربما قررت أن تبدأ من هنا.
ارتياح رسمي في دمشق
الاستجابة من دمشق جاءت سريعة وحاسمة. فقد أصدرت الجهات الرسمية بيانًا وصفت فيه القرار البريطاني بـ”الخطوة الشجاعة” التي تعبّر عن “بداية مرحلة عقلانية في العلاقات الدولية”. كما عبّر متحدثون حكوميون عن استعداد سوريا لـ”التعاون البناء” مع جميع الأطراف الراغبة في دعم استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب.
في الوزارات المعنية، أي الدفاع والداخلية، عُقدت اجتماعات داخلية لمناقشة كيفية الاستفادة من هذه التطورات، خصوصًا على صعيد استئناف بعض أوجه التنسيق الأمني، وربما إعادة فتح قنوات خلفية للتفاوض على قضايا إقليمية مثل مكافحة التهريب والمخدرات، ومراقبة الحدود الشمالية والشرقية.
كيف استقبل الشارع السوري هذه الخطوة؟
في الشارع السوري، تراوحت ردود الفعل بين الأمل والحذر:
-
فئة أولى رأت في الخطوة مؤشرًا حقيقيًا على بدء فك الحصار الدولي، ما قد يُفضي إلى تحسن اقتصادي ملموس، وعودة بعض المؤسسات الدولية للعمل في سوريا، وإعادة ضخ الاستثمارات الأجنبية، وهو ما تحتاجه البلاد بشدة في هذه المرحلة.
-
فئة ثانية تعاملت معها كـ”مسرحية سياسية”، معتبرةً أن الدول الغربية، ومنها بريطانيا، تفتح أبواب الحوار فقط عندما تتضرر مصالحها، وأن رفع العقوبات عن وزارتين “رمزيتين” لا يعني بالضرورة رفع الحظر الكامل أو عودة العلاقات الدبلوماسية.
-
فئة ثالثة طرحت تساؤلات واقعية: ماذا بعد؟ هل ستسمح بريطانيا بعودة العلاقات التجارية؟ هل ستشجع شركاتها على العودة إلى السوق السورية؟ وماذا عن العقوبات الأوروبية الأخرى؟ هل سترفع بدورها؟
تداعيات محتملة
1. على الصعيد الداخلي:
قد تستغل الحكومة السورية هذه الخطوة لتعزيز خطابها أمام الشعب، وتأكيد شرعيتها السياسية. ستُستخدم كبطاقة في الإعلام الرسمي للتأكيد على أن “العالم بدأ يعترف مجددًا بالدولة السورية”.
كما قد تُعيد الخطوة بعض التوازن داخل الدولة، حيث يُمكن لوزارتي الدفاع والداخلية استعادة جزء من دورهما الخارجي في التنسيق والتعاون الإقليمي، مما يعزز موقعهما داخل بنية النظام.
2. على الصعيد الإقليمي:
رفع العقوبات البريطانية قد يشجع دولًا إقليمية أخرى – كالأردن أو مصر أو لبنان – على تعزيز التعاون مع دمشق في ملفات اقتصادية وأمنية. وهذا يعزز من موقع سوريا في المعادلات الجديدة للشرق الأوسط.
3. على الصعيد الدولي:
قد لا يكون للخطوة البريطانية أثر فوري على المواقف الأميركية أو الأوروبية، لكنها تضعف الحجة الأخلاقية التي بُنيت عليها سياسة العزل. فحين تبدأ الدول في التخلي عن العقوبات بشكل تدريجي، فإن جدار المقاطعة يتآكل، وربما يتهاوى في مرحلة لاحقة.
ما المطلوب من سوريا الآن؟
في ظل هذا التطور، تُطرح تساؤلات عن الخطوات التي يجب أن تقوم بها الحكومة السورية لتعزيز هذا الانفتاح. فهل سترد دمشق بإجراءات حسن نية؟ هل ستُطلق سراح معتقلين سياسيين؟ هل ستبدأ بإشراك بعض المعارضين في العملية السياسية؟ هل ستبادر إلى إصلاحات اقتصادية حقيقية تسهّل الاستثمار الدولي؟
كل هذه الخطوات قد تجعل من قرار بريطانيا نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة، بدلاً من أن تكون مجرد استثناء ظرفي في سياق عام متوتر.
مخاوف المعارضين والناشطين
رغم الأجواء الإيجابية الظاهرة، فإن كثيرًا من الناشطين الحقوقيين عبّروا عن خشيتهم من أن تؤدي هذه الخطوة إلى “تطبيع القمع”، أي منح شرعية غير مشروطة للسلطات السورية دون مقابل حقيقي على صعيد الحريات العامة أو العدالة الانتقالية.
ويخشى البعض من أن تسقط قضايا انتهاكات حقوق الإنسان تحت طاولة المصالح السياسية والاقتصادية، وأن تتحول القضية السورية إلى ورقة تفاوض إقليمي بين القوى الكبرى، يتم فيها تجاهل صوت الضحايا والمهجرين.
نحو إعادة إعمار سياسية واقتصادية؟
إذا ما اتسعت دائرة الدول التي ترفع عقوباتها عن مؤسسات الدولة السورية، فإن ذلك قد يُمهّد لمرحلة جديدة من إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي. الشركات الغربية التي كانت تتجنب السوق السورية بسبب العقوبات قد تعود تدريجيًا. المنظمات الدولية قد تفتح مكاتبها مجددًا. المساعدات قد تأتي مباشرة بدلًا من المرور عبر وسطاء إقليميين.
لكن كل هذا مشروط بإجراءات سورية واضحة تؤكد أن البلاد تتحرك نحو إصلاحات حقيقية، لا مجرد إعادة تعويم للسلطة.
خاتمة: خطوة أولى… لكن إلى أين؟
رفع بريطانيا لعقوباتها عن وزارتي الدفاع والداخلية السورية ليس حدثًا عابرًا. إنه مؤشر على تغير في المزاج الدولي، وعلى بداية مرحلة جديدة من البراغماتية في التعامل مع الملف السوري. لكن ما إذا كانت هذه الخطوة ستقود إلى انفراجة حقيقية في الداخل السوري، أو إلى تطبيع شامل مع العالم الخارجي، فهذا مرهون بما ستقوم به دمشق لاحقًا.
في السياسة، كما في الحياة، لا يكفي أن تفتح الباب، بل يجب أن تعرف إلى أين يؤدي هذا الباب… وهل من في الداخل مستعد فعلًا لاستقبال من يطرقه؟