وسط مشهد سياسي متغيّر وتوازنات إقليمية متقلبة، يبدو أن سوريا تدخل فصلًا جديدًا من فصول تحولاتها المعقدة، ليس عبر معارك أو قرارات أممية، بل من خلال ولادة تحالف إقليمي جديد يعيد ترتيب الأوراق في شمال البلاد. تحالف يتشكل على الأرض بدعم تركي واضح، ويسعى إلى إعادة تعريف السلطة والتمثيل في مناطق الشمال السوري، بعيدًا عن كل ما عرفته سوريا من قوى متناحرة في السنوات الماضية.
هذا التحالف الناشئ، الذي بات يأخذ طابعًا سياسيًا وعسكريًا، قد لا يكون مجرد تحالف بين فصائل، بل مشروع سياسي متكامل مدعوم إقليميًا، يطرح نفسه بديلاً عن النماذج السابقة سواء التابعة للنظام أو لمشروع الإدارة الذاتية. في هذا المقال، نكشف خريطة التحرك، من يقف خلفه، وما هي أهدافه، وما يترتب عليه على مستوى مستقبل سوريا السياسي والجغرافي.
بداية من الباب إلى جرابلس: خارطة تتغير
في مدن وبلدات كالباب، أعزاز، جرابلس، تل أبيض، ورأس العين، تسارعت خلال الأسابيع الأخيرة تحركات سياسية وأمنية وعسكرية توحي بأن “الواقع الجديد” في طريقه إلى التشكل. اللقاءات السرية والعلنية التي عقدت بين فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة، والمكاتب السياسية التي بدأت تعيد ترتيب صفوفها، تشي جميعها بتحول قادم.
اللافت في الأمر هو أن تركيا لم تعد تتعامل مع هذه المناطق كـ”منطقة أمنية عازلة” فقط، بل كجزء من مشروع مستقبلي أوسع يضمن مصالحها السياسية والاقتصادية في سوريا، ويعيد إليها نفوذها عبر أدوات سورية محلية، في إطار تحالف منسق، منظم، وأكثر فاعلية مما عرف في السنوات السابقة.
من الفصائل المتنازعة إلى الهيكل الموحد
من أبرز ملامح التحالف الإقليمي الجديد أنه يحاول تجاوز عقبة “تشرذم الفصائل”. في السابق، كانت هذه المناطق تعاني من وجود فصائل متعددة، متنازعة أحيانًا، أو متنافسة على النفوذ والموارد، ما جعلها عاجزة عن بناء نموذج حكم موحد. لكن الآن، تسير الأمور باتجاه إنشاء “قيادة موحدة”، سواء في الجانب العسكري أو الإداري.
ظهرت محاولات لتشكيل مجالس محلية مركزية تحت إدارة واحدة، وتحويل قوى الأمن العام إلى جهاز موحد غير تابع لفصيل بعينه. كما بدأت عملية إعادة توزيع المقرات والنقاط العسكرية لضمان عدم التصادم، في ظل إشراف مباشر من الجانب التركي، الذي يبدو أنه قرر إنهاء “الفوضى المسلحة” في مناطق نفوذه.
دعم تركي غير مسبوق: رسائل ضمنية وخارجية
الدعم التركي لتحالف الشمال لا يقتصر على المساعدات اللوجستية أو الغطاء السياسي، بل بات يشمل التدريب، وإعادة هيكلة الكوادر، وتوفير مصادر دخل محلية تدعم الاستقرار. وقد تم ربط ذلك بتفاهمات أمنية أوسع تشمل حماية الحدود، منع تهريب السلاح والمخدرات، ومراقبة المعابر.
على الصعيد السياسي، تعكس هذه الخطوة توجه تركيا نحو تعزيز الحضور السني المعتدل في المعادلة السورية، عبر خلق قوة محلية تحظى بالشرعية الشعبية والتنظيمية، بدلًا من الاعتماد على كيانات مشتتة أو تابعة بالاسم دون فاعلية.
وتوجه تركيا من خلال هذا التحالف رسائل إلى النظام السوري، وروسيا، وحتى الولايات المتحدة: مفادها أن أنقرة موجودة بقوة، وأنها قادرة على تشكيل واقع ميداني مستقر لا يمكن تجاوزه في أي تسوية قادمة.
البديل عن “الإدارة الذاتية”؟
واحدة من أكثر النقاط حساسية هي العلاقة بين التحالف الجديد ومشروع “الإدارة الذاتية” الذي تتبناه قوات سوريا الديمقراطية في مناطق شمال شرق سوريا. فالتحالف الناشئ لا يطرح نفسه فقط كهيكل حكم في مناطق المعارضة، بل كمشروع سياسي بديل عن النموذج الفيدرالي، خاصة أنه يتبنى خطابًا سوريًا وطنيًا يرفض الانفصال والتقسيم، ويؤكد وحدة التراب السوري مع نموذج لا مركزي إداري.
التحركات في هذا الاتجاه لم تعد سرًا. فقد بدأت بعض الشخصيات السياسية المعارضة، المقربة من هذا التحالف، في عقد لقاءات مع وفود أوروبية وخليجية لتقديم هذا المشروع كبديل واقعي، خاصة بعد تصاعد الانتقادات الدولية لممارسات الإدارة الذاتية، وتوتر علاقتها مع العشائر والقبائل العربية في دير الزور والرقة.
بُعد اقتصادي لا يمكن تجاهله
ليس سرًا أن من أبرز عوامل نجاح أو فشل أي كيان سياسي في سوريا اليوم هو القدرة الاقتصادية. ومن هنا، يبدو أن تركيا تُولي اهتمامًا كبيرًا بملف الاقتصاد المحلي في مناطق الشمال، عبر دعم الزراعة والصناعة الخفيفة، وإنشاء مناطق حرة، وتنظيم المعابر مع تركيا لتكون موردًا ماليًا للجهات المحلية.
وقد بدأ هذا التحالف بالفعل بتأسيس مكاتب اقتصادية تابعة له، وتنفيذ مشاريع استثمارية صغيرة كفتح مصانع، وسلاسل إمداد غذائي، ومراكز طبية. الهدف من ذلك هو الوصول إلى “اكتفاء شبه ذاتي” يقلل الاعتماد على المساعدات ويمنح التحالف شرعية واقعية أمام السكان المحليين.
هل هناك طموح سياسي حقيقي؟
المراقبون يرون أن هذا التحالف لا يتحرك فقط ضمن الحسابات الأمنية أو الاقتصادية، بل له طموح سياسي حقيقي بأن يكون جزءًا من الحل النهائي في سوريا. هناك إشارات واضحة إلى أن هذا المشروع يسعى ليكون ممثلًا شرعيًا لجزء من المعارضة السورية، وربما بديلاً عن كيانات أخرى تآكلت شعبيتها أو فاعليتها خلال السنوات الماضية.
بدأت بعض القوى السياسية المتحالفة مع المشروع بإعادة تفعيل وجودها السياسي والإعلامي، وتحريك ملفات التفاوض، مع محاولة إعادة إنتاج خطاب سياسي جامع لا يعتمد على الإقصاء بل على التمثيل الواسع، خاصة للعرب السنة، والتركمان، والمكون الكردي المعتدل.
كيف ينعكس هذا التحالف على المشهد السوري العام؟
لا شك أن ظهور هذا التحالف يُربك الحسابات السابقة. فمن جهة، يعزز من موقف تركيا في أي مفاوضات مقبلة بشأن مستقبل سوريا، ويوفّر لها حليفًا محليًا أكثر تنظيمًا. ومن جهة أخرى، يطرح معادلة جديدة في الصراع السياسي، إذ لن يكون النظام والمعارضة التقليدية هما الطرفان الوحيدان في أي حوار سياسي، بل سيكون هناك طرف ثالث يُمثل نموذجًا ناجحًا نسبيًا في الحكم المحلي، ويحظى بدعم إقليمي قوي.
وقد يؤدي هذا إلى تفكيك أو إعادة تشكيل التحالفات الداخلية في المعارضة السورية، ويجبر بعض القوى القديمة على مراجعة خطابها وتحالفاتها، وربما الاندماج في هذا التحالف الجديد إن أرادت البقاء ضمن اللعبة.
مخاوف وتحديات
رغم المؤشرات الإيجابية، إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجه هذا المشروع:
-
الرفض الدولي لفكرة “نفوذ تركي دائم” في سوريا، خصوصًا من قبل إيران والنظام وروسيا.
-
المعاناة من ضغط سكاني واقتصادي كبير في مناطق الشمال، حيث يقطن ملايين النازحين في ظروف صعبة.
-
احتمال اندلاع مواجهات مع قوى كردية مسلحة إذا تم توسيع نفوذ التحالف إلى مناطق مختلطة.
-
عدم وجود اعتراف دولي واضح حتى الآن بهذا الكيان أو هيئاته، ما يحد من حركته الخارجية.
هل هو بداية “إقليم سوري تركي” غير معلن؟
تدور الكثير من التحليلات حول فكرة أن ما يجري هو نواة لإقليم خاص في شمال سوريا بإشراف تركي، يشبه إلى حد كبير النموذج الكردي في العراق، ولكن بصيغة سورية، وبهوية عربية تركمانية، وولاء سياسي لأنقرة. ورغم أن هذا الاحتمال ما زال بعيدًا، إلا أن تشكل البنية الإدارية والسياسية والاقتصادية لهذا التحالف يعزز هذه الفرضية.
خاتمة: تحالف الأمر الواقع
التحالف الإقليمي الجديد في شمال سوريا ليس مجرد تجمع لفصائل أو مبادرة مؤقتة. بل هو مشروع سياسي ـ أمني ـ إداري، يستند إلى دعم إقليمي قوي، ويراهن على الواقع بدلًا من الشعارات. وهو محاولة واضحة لتجاوز تجارب سابقة ثبت فشلها، عبر صيغة أكثر واقعية وبراغماتية، معتمدة على بناء مؤسسات، لا على الخطابة فقط.
ويبقى السؤال الأهم: هل سينجح هذا التحالف في فرض نفسه لاعبًا أساسيًا في رسم مستقبل سوريا؟ أم سيتحول إلى تجربة أخرى في سجل محاولات “البديل السوري” التي لم تكتمل؟
الأسابيع والأشهر القادمة قد تكون حاسمة في الإجابة على هذا السؤال، وسط خارطة سورية لا تزال قيد التشكل.