في مدرجات جامعية متشققة، وقاعات تفتقد الكهرباء والتدفئة، يحاول آلاف الطلاب السوريين مواصلة تعليمهم العالي في ظل ظروف مأساوية تحوّلت معها الجامعات السورية إلى مؤسسات منهكة تعاني الانهيار الإداري والعلمي. مشهد التعليم الجامعي في سوريا لم يعد يعكس تطورًا أو نهضة فكرية، بل أزمة عميقة متعددة الأوجه تهدد مستقبل جيل كامل، وتُقوّض أساس أي محاولة لإعادة بناء البلاد بعد الحرب.
من البنية التحتية المتآكلة، إلى المناهج الجامدة، وهجرة الأساتذة، وضعف البحث العلمي، ونقص الاعتراف الدولي بالشهادات، يتفاقم الانحدار الذي تعانيه الجامعات السورية عامًا بعد عام، في ظل غياب حلول استراتيجية حقيقية.
في هذا المقال، نسلط الضوء على جوانب هذا الانهيار، ونبحث في أسبابه، وتداعياته، وآفاق تجاوزه، إن وُجدت.
الجامعات السورية: من الريادة إلى الغياب
لطالما كانت الجامعات السورية – وخصوصًا جامعة دمشق – منارة تعليمية على مستوى المنطقة العربية، خرّجت مئات الآلاف من الطلبة السوريين والعرب والأجانب، وكانت بيئة حية للنقاش والبحث العلمي. لكن الحرب التي بدأت عام 2011، ومع ما تبعها من تدهور اقتصادي وهجرة بشرية وتفكك مؤسسات، أدت إلى تحوّل الجامعات إلى هياكل بلا روح.
اليوم، يعاني التعليم الجامعي من:
-
ضعف في الكادر التدريسي.
-
نقص حاد في الموارد والمعدات والمراجع.
-
اكتظاظ غير مسبوق في الصفوف.
-
تدهور نوعي في مستوى الخريجين.
-
غياب كامل لأي خطة وطنية للإنقاذ أو التطوير.
البنية التحتية… جامعات تنهار جسديًا
عند دخولك إلى كليات مثل الطب أو الهندسة أو الآداب، في دمشق أو حلب أو دير الزور، يصدمك حال الأبنية:
-
مقاعد مكسورة، وألواح لا تصلح للكتابة.
-
انقطاعات متكررة للكهرباء، مما يعطّل الشاشات وأجهزة العرض.
-
نقص في مواد المختبرات والتجهيزات الطبية والهندسية.
-
شبكات الإنترنت بطيئة أو غير موجودة، مما يعوق الوصول إلى المعرفة الرقمية.
هذا الواقع لا يُقلق فقط الطلاب، بل يدفع كثيرًا من الأساتذة إلى فقدان الحماس للعمل أو تقديم المعرفة بطريقة مهنية.
المناهج القديمة… علم لا يواكب العصر
أحد أبرز أوجه الأزمة هو استمرار الاعتماد على مناهج جامدة تعود إلى عقود مضت، لم يتم تحديثها بشكل جذري منذ سنوات طويلة، رغم ما شهده العالم من تطورات هائلة في العلوم والتكنولوجيا وأساليب التعليم.
النتيجة:
-
انفصال بين ما يُدرّس في القاعات وما يحتاجه سوق العمل.
-
تكرار للمحتوى النظري على حساب الجانب العملي.
-
تخريج طلاب لا يجيدون استخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة.
-
استمرار تدريس مواد لم تعد ذات صلة بالواقع المحلي أو العالمي.
هجرة الأساتذة… انهيار العمود الفقري
خسرت الجامعات السورية خلال السنوات الماضية نسبة كبيرة من أساتذتها وأساتذة مساعديهم، بسبب:
-
تدني الرواتب إلى حدود مهينة (لا تتجاوز 30 إلى 50 دولارًا شهريًا).
-
سوء بيئة العمل الأكاديمية.
-
غياب الحوافز والتقدير المهني.
-
فرص مغرية في جامعات عربية وأوروبية.
بعض الكليات أصبحت اليوم تعتمد على أساتذة شباب قليلي الخبرة أو على متعاقدين مؤقتين، دون القدرة على تعويض الكفاءات التي غادرت.
البحث العلمي: غائب تمامًا
البحث العلمي، الذي يُعد ركيزة أي مؤسسة تعليمية محترمة، بات شبه معدوم في سوريا. أسباب ذلك كثيرة:
-
لا تمويل للأبحاث.
-
لا مجلات محكمة محلية حقيقية.
-
لا علاقات تعاون مع جامعات خارجية.
-
لا مختبرات أو أدوات متقدمة.
الطالب الذي يرغب بإجراء بحث علمي فعلي، يُجبر على العمل دون إشراف، أو تحت ضغط إداري، أو يلجأ إلى شراء الأبحاث الجاهزة، مما فقد الشهادة الجامعية معناها الأكاديمي الحقيقي.
العدالة الأكاديمية: فساد ومحسوبيات
الفساد لم يكن بعيدًا عن الجامعات، بل تغلغل فيها بشكل مقلق:
-
شراء الأبحاث والمشاريع بشكل علني في بعض الكليات.
-
نجاح بعض الطلاب بالمحسوبيات، وخصوصًا أبناء المتنفذين.
-
ابتزاز بعض الأساتذة للطلاب من خلال الدروس الخصوصية أو التهديد بالفشل.
-
معاملة تمييزية بين طلاب التعليم الموازي والعام.
هذا الواقع أفقد الجامعة هيبتها، وأضعف ثقة الطلاب في مؤسساتهم، وأدى إلى إحباط عام في أوساط الشباب الجامعي.
الطالب السوري: ضحية كل الأزمات
الطالب الجامعي اليوم يعيش بين المطرقة والسندان:
-
مطرقة الفقر، إذ بات تأمين المصروف اليومي والنقل والقرطاسية تحديًا يوميًا.
-
سندان الانهيار الأكاديمي، حيث لا يجد جودة تعليم ولا أفق عمل بعد التخرج.
والنتيجة أن الآلاف من الطلبة يدرسون فقط للحصول على شهادة شكلية، في حين يعملون في مهن لا علاقة لها بتخصصهم، أو يُفكرون بالهجرة فور تخرجهم.
التعليم الجامعي في الخارج: خيار للبعض فقط
بسبب تراجع مستوى الجامعات السورية، بدأ عدد من الطلاب يفكرون في الالتحاق بجامعات عربية أو أوروبية، لكن هذه الفكرة تُواجه عوائق عدة:
-
الكلفة المرتفعة.
-
عدم اعتراف بعض الدول بالشهادات السورية.
-
صعوبات التأشيرة والإجراءات القانونية.
وهكذا، فإن التعليم الجيد بات امتيازًا للقادرين ماديًا فقط، بينما يُترك بقية الطلاب تحت رحمة تعليم مُنهار ومؤسسات بلا مستقبل.
هل من حلول ممكنة؟
رغم عمق الأزمة، لا يزال بإمكان سوريا إنقاذ جامعاتها، عبر خطة استراتيجية تتضمن:
1. رفع رواتب الأساتذة والكوادر التعليمية
لمنع المزيد من الهجرة، واستعادة بعض الكفاءات.
2. تحديث شامل للمناهج
بمشاركة متخصصين من الداخل والخارج، وربطها بسوق العمل الفعلي.
3. إصلاح البنية التحتية
بدءًا من الأبنية والمخابر وصولًا إلى الإنترنت والتجهيزات الرقمية.
4. تفعيل البحث العلمي
عبر إنشاء صناديق تمويل مستقلة للأبحاث، وتشجيع الطلاب على الإبداع.
5. إعادة الاعتبار لقيمة الشهادة الجامعية
بمحاربة الفساد الأكاديمي، وتطبيق العدالة بين الطلاب، ورفع معايير التخرج.
التعليم الجامعي… حجر الأساس لسوريا الغد
من دون تعليم عالٍ حقيقي، لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار، ولا عن اقتصاد منتج، ولا عن مجتمع متطور. الجامعات ليست فقط مؤسسات للتلقين، بل هي مصانع للمعرفة، وللنقد، وللأمل.
إذا تُركت الجامعات تنهار، فسنرى جيلًا بلا أفق، بلا مهارة، وبلا انتماء. وإذا أُنقذت، فسنضع أول حجر في طريق نهوض سوريا مجددًا.