بين جدران مستشفى الأطفال بدمشق، الذي كان يومًا يُعد من أكبر وأهم المراكز الطبية المتخصصة برعاية الأطفال في سوريا، تُسمع اليوم أنين أمهات يطرقن الأبواب المغلقة، وأصوات أطباء يشكون قلة الإمكانيات، بينما يُرقد عشرات الأطفال المرضى على أسرّة مهترئة، بعضهم في الممرات، وبعضهم لا يجد مكانًا حتى هناك. هذه الصورة ليست جزءًا من مشهد تمثيلي في فيلم درامي، بل واقع يومي صارخ يُجسّد حالة الانهيار التدريجي للقطاع الصحي الحكومي في البلاد، مع تصاعد أزمة نقص الأدوية، والأطباء، والمستلزمات الأساسية.
في هذا المقال، نرصد مأساة مستشفى الأطفال بدمشق، ونحلل أسباب العجز الذي أصابه، ونتناول تداعيات هذه الأزمة على صحة الأطفال السوريين، ومستقبلهم، وأمنهم الإنساني، في ظل ظروف اقتصادية خانقة وعقوبات دولية مشددة.
تاريخ من الريادة… ولكن!
تأسس مستشفى الأطفال في دمشق منذ عقود، وكان يُمثّل مفخرة القطاع الصحي في سوريا. بموقعه الحيوي وسط العاصمة، وبتخصصه الدقيق في طب الأطفال، لعب دورًا كبيرًا في علاج مئات آلاف الأطفال من مختلف المحافظات، خاصةً في حالات الأمراض المزمنة، التشوهات الخلقية، أمراض الدم، والأورام.
كان المستشفى يُقدّم خدماته مجانًا أو بتكاليف رمزية، ويضم نخبة من الأطباء والأساتذة الجامعيين، ويحتوي على مختبرات متطورة، وأجهزة تصوير وتشخيص نادرة في المنطقة.
لكن مع مرور الوقت، وخاصة خلال سنوات الحرب، بدأت ملامح الانهيار تظهر: انقطاع تمويل، تسرّب كفاءات، غياب الصيانة، حتى أصبح المستشفى اليوم مكانًا يعاني من كل شيء… عدا المرضى.
الواقع الحالي: شح في كل شيء
تتمثل أبرز مظاهر العجز داخل مستشفى الأطفال في دمشق في الجوانب التالية:
1. نقص الأدوية
حتى أكثر أنواع الأدوية بساطة – كالخافضات، المضادات الحيوية، وموسعات القصبات – باتت تُصرف حسب التوفر، وغالبًا يُطلب من الأهل شراءها من الخارج، رغم غلاء الأسعار وفقر المواطنين.
2. أجهزة متوقفة
أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، والمفراس، وحتى بعض الأجهزة الخاصة بقياس الضغط والتنفس، متوقفة عن العمل منذ أشهر، بسبب عدم توفر قطع التبديل، أو لانتهاء عمرها الافتراضي دون صيانة.
3. هجرة الكوادر الطبية
المستشفى خسر أكثر من 60% من كوادره الطبية والإدارية في السنوات الماضية، بسبب الهجرة، أو التقاعد دون تعويض، أو ضعف الرواتب، مما جعل الأقسام تعمل بعدد محدود من الأطباء والممرضين.
4. ازدحام فوق طاقة الاستيعاب
يومياً، يستقبل المستشفى أكثر من 500 حالة في العيادات والإسعاف، بينما الطاقة الحقيقية لا تتجاوز 200 حالة، مما أدى إلى تكدس الأطفال، وتأخير الاستجابة، وتحويل كثير من المرضى إلى مشافٍ أخرى.
أطفال على قائمة الانتظار… للموت؟
ربما تكون أكثر المشاهد قسوة تلك التي تحدث في قسم الأورام أو العناية المشددة، حيث يُضطر الأطباء إلى اختيار من له الأولوية بالحياة، بسبب عدم توفر الأجهزة أو الأدوية لجميع الحالات.
-
أطفال مصابون بسرطان الدم يُحرمون من جلسات العلاج الكيماوي لعدم توفر الجرعة.
-
رضّع في حالة اختناق لا يجدون أجهزة تنفس.
-
أطفال مصابون بتشوهات قلبية ينتظرون موافقات أو تحويلات إلى الخارج، قد لا تأتي أبدًا.
في كل ذلك، تكافح الأمهات للبقاء، ويمضي الآباء يومهم بين الصيدليات والمخابر، بحثًا عن دواء مفقود أو تحليل مكلف لا يُجريه المستشفى.
الأسباب المتراكبة
لا يمكن اختزال أسباب هذا الانهيار في سبب واحد، بل هي مجموعة عوامل متداخلة، نذكر منها:
– الحرب وتبعاتها:
أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية الصحية في أجزاء واسعة من البلاد، وتركيز الجهود على الإسعاف الحربي، مما أهمل التخصصات الأخرى، خاصةً الطب الوقائي والطفولي.
– العقوبات الاقتصادية:
العقوبات الغربية، خاصة الأميركية، أثّرت على استيراد المعدات الطبية والأدوية، حتى تلك غير المشمولة رسميًا بالعقوبات، نتيجة القيود على التحويلات البنكية والتعاملات التجارية.
– هجرة الكفاءات:
خسر القطاع الصحي في سوريا خلال عقد من الزمن عشرات آلاف الأطباء، الذين لجأوا إلى دول الجوار وأوروبا بسبب تدني الأجور، وغياب الأمن الوظيفي، والضغط النفسي.
– سوء الإدارة والبيروقراطية:
رغم الموارد المحدودة، هناك هدر إداري، ونقص في الشفافية، وبطء في اتخاذ القرار، مما يعمّق من الأزمة بدلًا من احتوائها.
أثر الأزمة على الأطفال
الأطفال هم الحلقة الأضعف في أي مجتمع، وفي سوريا، يدفعون الثمن الأكبر لهذه الأزمة الصحية:
-
تأخر في التشخيص يؤدي إلى تفاقم الأمراض.
-
نقص في التطعيمات الدورية يهدد بعودة أمراض منقرضة مثل شلل الأطفال والحصبة.
-
حرمان من الرعاية النفسية في بلد يعيش فيه الأطفال تحت ضغط الحرب والنزوح والفقر.
وقد بدأنا نرى جيلًا جديدًا يعاني من مشاكل صحية مزمنة سترافقه طيلة حياته: ضعف تغذية، مشاكل نمو، إعاقات غير مكتشفة، وأمراض مزمنة غير معالجة.
حلول مؤجلة ومسكنات لا تكفي
تحاول بعض الجهات المعنية القيام ببعض الخطوات “الترقيعية”، مثل:
-
تنظيم حملات تطوعية من طلاب الطب والمقيمين.
-
استقدام مساعدات من منظمات إنسانية بين الحين والآخر.
-
إطلاق حملات تبرع لمصلحة المستشفى.
لكن هذه الخطوات تبقى محدودة التأثير، ولا تعالج جذور المشكلة، ما لم تُطلق خطة وطنية شاملة لإصلاح القطاع الصحي للأطفال، تبدأ من تحسين البنية التحتية، وتمر بتأهيل الكوادر، وتنتهي باستقلالية مالية وإدارية حقيقية للمشافي.
أين الإعلام؟ وأين الصوت المجتمعي؟
الغريب أن هذه الكارثة الصحية، رغم اتساعها، تحظى بتغطية إعلامية خجولة، إن لم تكن غائبة. فالمؤسسات الرسمية تتفادى الحديث عن المشاكل الداخلية، وتكتفي بنشر بيانات إنجازات محدودة، بينما الإعلام الخاص يتجنب الاصطدام مع الواقع المؤلم.
حتى المجتمع المدني يبدو مرهقًا ومفككًا، بعد سنوات من التضييق والضعف التنظيمي. الأصوات المنادية بحق الطفل في الرعاية الصحية باتت معزولة، فردية، ومُجهدة.
هل من أمل في التغيير؟
نعم، لا تزال هناك فرصة، بشرط توافر إرادة سياسية وإدارية وشعبية. يمكن البدء فورًا عبر:
-
إعادة تأهيل مستشفى الأطفال بدمشق كأولوية وطنية.
-
فتح باب التبرع الشعبي بشفافية، تحت إشراف لجنة مستقلة.
-
تشجيع عودة الكفاءات الطبية عبر منح حوافز وإعفاءات.
-
إنشاء صندوق دعم خاص بصحة الطفل، يموّل عبر الشراكة بين الحكومة، المغتربين، والمنظمات الإنسانية.
-
فتح باب التعاون مع المنظمات الدولية، ولو بشكل غير مباشر، لتأمين الأجهزة والأدوية الأساسية.
الخاتمة: بين حياة طفل وضمير وطن
حين يفقد طفل حقه في العلاج، لا تُدان فقط وزارة الصحة، بل يُدان مجتمع بأكمله. حين يُترك رضيعٌ يختنق على باب عناية مشددة لا تعمل، فلا معنى للحديث عن السيادة أو الاستقلال أو الوطنية.
مستقبل سوريا مرهون بصحة أطفالها. وإذا لم نحمِ هذا الجيل، فسنخسر ما تبقّى من الأمل. آن الأوان لأن تُقرع أجراس الإنذار في كل بيت ومكتب ووزارة، لأن صرخة طفل بلا دواء… هي صرخة وطن يحتضر.