في صمتٍ مثقل بالخذلان، يغادر الأطباء السوريون بلادهم واحدًا تلو الآخر، تاركين خلفهم مستشفيات متهالكة، ومرضى بلا رعاية، وأجيالًا من طلاب الطب دون معلمين. موجة الهجرة الجماعية للكفاءات الطبية السورية، والتي تصاعدت بوتيرة مخيفة في السنوات الأخيرة، باتت تُشكّل تهديدًا وجوديًا لما تبقى من المنظومة الصحية في البلاد، التي أنهكتها الحرب، والحصار، والانهيار الاقتصادي.
الخطورة في هذه الظاهرة لا تكمن فقط في خسارة الأطباء، بل في تداعياتها الواسعة على الصحة العامة، والعملية التعليمية، وسوق العمل، وحقوق المرضى. في هذا المقال، نرصد أبعاد الكارثة التي يتسبب بها هذا النزيف البشري، ونسأل: لماذا يهاجر الأطباء؟ من المسؤول؟ وهل من أمل في كبح هذا النزيف قبل فوات الأوان؟
من هجرة الأدمغة إلى هجرة الحياة
لطالما اعتُبرت الكوادر الطبية السورية من الأكثر كفاءة عربيًا ودوليًا، حيث تخرجت أجيال من الأطباء من جامعات دمشق وحلب وتشرين بتدريب متين وخبرة واسعة، وشهدت دول كثيرة – من ألمانيا إلى دول الخليج – على تفوقهم في ميادين الطب والبحث والتعليم.
لكن منذ عام 2011، وخصوصًا بعد عام 2015، بدأت هجرة الكوادر الطبية تتحول من حالات فردية إلى ظاهرة جماعية، شملت أساتذة جامعات، أطباء مختصين، جراحين نادرين، وحتى طلابًا لم يكملوا تدريبهم.
اليوم، تُقدّر نسبة الأطباء الذين غادروا البلاد بما يزيد عن 60% من إجمالي الكادر العامل قبل الحرب، في بعض التخصصات الحساسة، كجراحة الأعصاب أو طب الأطفال الخدّج، وصلت النسبة إلى 80%.
لماذا يهاجر الطبيب السوري؟
لا يمكن حصر الأسباب بدافع واحد، بل هي منظومة من الضغوط المتداخلة، نلخصها في النقاط التالية:
1. الوضع الاقتصادي الكارثي
يتقاضى الطبيب المقيم في المستشفى الجامعي راتبًا شهريًا لا يتجاوز 300 ألف ليرة سورية (أقل من 20 دولارًا في السوق السوداء)، وهو مبلغ لا يكفي حتى لشراء أبسط مستلزمات الحياة اليومية. أما الأطباء الاختصاصيون في المستشفيات الحكومية، فدخلهم بالكاد يتجاوز 500 ألف ليرة، ما يدفعهم للعمل ليلًا ونهارًا في العيادات الخاصة أو التعاقد مع دول أخرى.
2. البيئة المهنية الطاردة
العمل الطبي في سوريا بات محفوفًا بالمخاطر: نقص في الأجهزة والأدوية، انقطاع الكهرباء، بيئة متهالكة، وتحميل الطبيب مسؤولية الأخطاء الطبية حتى في غياب الحد الأدنى من الإمكانيات.
3. الضغوط الإدارية والأمنية
يتعرض بعض الأطباء لملاحقات أو تهديدات، سواء لأسباب سياسية أو مهنية، خصوصًا أولئك الذين يرفضون العمل في مستشفيات عسكرية، أو يُعرفون بمواقف نقدية.
4. غياب التقدير المجتمعي
رغم حجم التضحيات، يُعامل الأطباء أحيانًا بجفاء أو استغلال، ويُنظر إليهم كمجرد مقدمي خدمة لا تستحق الاحترام أو الحماية، ما يشعرهم بالغربة في وطنهم.
5. فرص الخارج المغرية
العالم بأسره يعاني نقصًا في الكوادر الطبية، ما جعل دولًا أوروبية وخليجية تفتح أبوابها للأطباء السوريين، وتقدم عروضًا مغرية من حيث الرواتب، والسكن، والتدريب، والاستقرار العائلي.
من بقي في الداخل؟
مع تصاعد الهجرة، بات من بقي من الأطباء في الداخل ينقسمون إلى ثلاث فئات:
-
الأطباء الجدد أو طلاب الطب المقيمون، الذين لم يجدوا فرصة بعد للهجرة.
-
الأطباء الذين يملكون عيادات خاصة في المدن الكبرى، ولديهم دخل يؤمن لهم مستوى معيشة متوسط.
-
من اختار البقاء رغم كل شيء، بدافع وطني أو عائلي أو بسبب ظروف تمنع السفر.
لكن التحدي الكبير أن هؤلاء الأطباء يعملون اليوم فوق طاقتهم، يُغطون نوبات متعددة، ويُدرّسون في الجامعات ويُجرون العمليات، ويُسعفون الحالات الطارئة، في غياب نظام دعم حقيقي.
التداعيات الكارثية
1. انهيار المنظومة الصحية
أقسام طبية كاملة أُغلقت في بعض المستشفيات بسبب غياب الاختصاصيين، وتم تحويل مرضى إلى محافظات أخرى أو حتى خارج سوريا. المستشفيات الجامعية أصبحت عاجزة عن إجراء بعض العمليات الأساسية.
2. تراجع التعليم الطبي
مع مغادرة أساتذة الطب، فقدت كليات الطب جزءًا كبيرًا من كفاءتها التعليمية، وأصبحت تُخرّج طلابًا دون تدريب سريري كافٍ، مما يُنذر بجيل طبي أقل كفاءة، رغم تفوقه النظري.
3. انخفاض مستوى الرعاية الصحية
الضغط على الأطباء الباقين، وقلة الإمكانات، وانخفاض الكفاءة التشغيلية، كل ذلك انعكس على جودة الخدمات الطبية، وخلق فجوة خطيرة بين حاجات الناس وقدرة المشافي على تلبيتها.
4. ظهور طب السوق السوداء
مع غياب الأطباء الاختصاصيين، ظهرت ممارسات غير قانونية، من تشخيصات خاطئة، إلى وصف أدوية غير ملائمة، وحتى تدخلات جراحية تُجرى في عيادات غير مجهزة.
الدولة: غائبة أم عاجزة؟
رغم إدراك الجهات المعنية لخطورة هجرة الأطباء، إلا أن الحلول المقترحة حتى الآن لا ترقى إلى مستوى الأزمة. من أمثلتها:
-
منع منح براءة الذمة المالية إلا بشروط معقدة.
-
إلزام الأطباء بالعمل في مستشفيات محددة لسنوات بعد التخرج.
-
طرح وعود برفع الرواتب دون تنفيذ فعلي.
-
إطلاق دورات تدريبية بموارد محدودة دون تجهيزات حقيقية.
وبدلًا من تحسين شروط العمل داخل سوريا، بدا أن السياسات المتبعة تسعى إلى ضبط الظاهرة إداريًا دون معالجتها جذريًا.
قصص من الواقع: قرار الهجرة الصعب
محمد، طبيب جراحة عصبية، غادر إلى ألمانيا عام 2021. يقول:
“لم أكن أريد أن أهاجر، لكنني لم أعد قادرًا على إنقاذ المرضى. كنت أجرّب الجراحة بأجهزة قديمة، ومرضاي يموتون لأن دواءً بسيطًا غير متوفر. حين غادرت، بكيت في المطار، لكني الآن أستطيع أن أعمل بكرامة، وأن أعيل عائلتي، وربما أعود يومًا إن تغيّر شيء.”
رغد، طبيبة أطفال في ريف دمشق، ما زالت تعمل في مركز صحي متهالك، تقول:
“يومياً أواجه حالات لا أستطيع علاجها، لا مختبر، لا أدوية، لا إحالة سريعة. أبكي عندما أرى أمًا تضع طفلها أمامي وتقول: أنقذيه. وأنا لا أملك إلا الاعتذار.”
هل يمكن وقف النزيف؟
رغم أن التحديات جسيمة، إلا أن كبح جماح الهجرة لا يزال ممكنًا إذا تم اتخاذ خطوات جدية، أبرزها:
-
رفع رواتب الأطباء بما يتناسب مع كلفة المعيشة.
-
تحسين بيئة العمل في المستشفيات الحكومية من حيث التجهيزات والدعم الإداري.
-
حماية الأطباء من الملاحقة غير القانونية والأمنية.
-
منح الأطباء حرية التدريب والتطوير دون بيروقراطية.
-
إطلاق حملة وطنية لحماية الكادر الطبي باعتباره أولوية وطنية.
الخاتمة: الطبيب لا يهاجر… إلا حين يُقصى
في نهاية المطاف، لا يُهاجر الطبيب لأنه لا يحب وطنه، بل لأنه لم يعد يجد فيه فرصة لحياة كريمة أو ممارسة مهنته بأخلاقها ومبادئها. وإن أردنا إنقاذ ما تبقى من القطاع الصحي في سوريا، علينا أولًا أن نعترف بأن الطبيب إنسان قبل أن يكون ملاك رحمة، وأن حمايته هي بداية الشفاء لا نهايته.
لن يكون هناك نظام صحي دون أطباء، ولا وطن معافى دون عقول تعالجه. وحين يبكي الطبيب في عيادته… اعلم أن المريض لن يضحك في بيته.