في مشهد مالي نادر، بدأت الليرة السورية تظهر بعض علامات الاستقرار النسبي أمام الدولار الأمريكي، بعد سنوات من التدهور الحاد الذي عصف بقيمتها الشرائية وأربك الأسواق. ومع نهاية شهر أبريل، لوحظ تقارب لافت بين أسعار الصرف في السوق الموازية والسوق الرسمية، ما دفع المتابعين إلى طرح تساؤلات: هل هو استقرار حقيقي؟ أم مجرّد هدوء مؤقت يسبق عاصفة جديدة؟ وماذا يعني هذا التحوّل على مستوى الاقتصاد المحلي والمعيشة اليومية للمواطن السوري؟
هذا المقال يحاول تقديم قراءة شاملة حول هذه الظاهرة المفاجئة، من خلال تحليل العوامل المحيطة، ورصد المؤشرات الداخلية والخارجية، واستعراض التحديات والمكاسب المحتملة لهذا الاستقرار النقدي غير المعتاد.
أولًا: نظرة إلى الأرقام
خلال النصف الثاني من أبريل، تراوح سعر صرف الدولار في السوق السوداء بين 11,500 و11,650 ليرة سورية، وهو هامش محدود مقارنة بما كان عليه الوضع في الأشهر السابقة، حين شهدت الأسواق قفزات بمئات الليرات يوميًا. أما السعر الرسمي، فقد استقر عند حدود 12,000 ليرة، ما يجعل الفارق بين السعرين في أدنى مستوياته منذ أعوام.
هذا التقارب النسبي ساهم في تهدئة الأسواق إلى حد كبير، حيث سجلت أسعار بعض السلع جمودًا ملحوظًا، بينما شهدت أسعار أخرى انخفاضًا طفيفًا في ظل توقعات بانخفاض الطلب بعد شهر رمضان.
لماذا يحدث هذا الآن؟
1. تشديد الرقابة المصرفية والأمنية
خلال الأشهر الماضية، شنت الحكومة السورية حملات مكثفة ضد تجار العملة في الأسواق السوداء، خاصة في دمشق وحلب. وشهدت البلاد مداهمات وإغلاقات لمكاتب صرافة غير مرخصة، إضافة إلى ضبط عمليات تهريب عملات نحو دول الجوار. هذه الإجراءات أسهمت في تقليص حجم التداولات خارج الإطار الرسمي، وبالتالي خفضت الضغط على الليرة.
2. زيادة التدفقات بالقطع الأجنبي
شهدت الفترة الأخيرة زيادة ملحوظة في حوالات المغتربين، خاصة من الدول العربية، وذلك بسبب موسم الأعياد وارتفاع عدد السوريين العاملين في الخارج. هذه الحوالات، التي تتم غالبًا بالدولار أو اليورو، ساهمت في دعم احتياطي المصرف المركزي، ولو بشكل غير معلن.
3. التفاهمات الإقليمية وتحسن المناخ السياسي
بدأت سوريا في استعادة جزء من علاقاتها الدبلوماسية مع دول عربية مؤثرة، وظهرت مؤشرات على استئناف بعض المشاريع الاستثمارية. التحركات السياسية الهادئة ساعدت في خلق مناخ من التفاؤل الحذر في الشارع الاقتصادي، ما حدّ من المضاربات والتكهنات حول انهيارات قريبة.
4. تراجع الطلب التجاري
مع انتهاء موسم الاستيراد الرمضاني، وتراجع الاستهلاك نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، انخفض الطلب على الدولار لأغراض تجارية، ما قلل من الضغط على سعر الصرف.
كيف انعكس هذا الاستقرار على السوق؟
1. الأسواق التجارية
شهدت الأسواق التجارية نوعًا من الهدوء، بعد حالة الترقب الحادة التي كانت تهيمن عليها. امتنع كثير من التجار عن تغيير الأسعار بشكل مفاجئ، وبدأ البعض يعرض تخفيضات محدودة لتصريف البضائع المتكدسة. ومع ذلك، لم تنخفض الأسعار بشكل كبير بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد السابقة وانعدام الثقة بالاستقرار طويل الأمد.
2. سوق العقارات
اللاعبون في قطاع العقارات، سواء المشترون أو البائعون، بدؤوا بالتعامل بحذر أكبر. فالتقلبات السابقة أجبرت الجميع على اعتماد الدولار كمرجع، لكن مع استقرار الليرة بدأت بعض العقود تُبرم بالليرة السورية مجددًا، رغم وجود بنود حماية من تغيرات السعر.
3. سوق الذهب
ارتبط سعر الذهب بسعر الصرف بشكل وثيق. ومع استقرار الدولار، تراجع الطلب على الذهب بوصفه ملاذًا آمنًا، خاصة أن أسعار الذهب العالمية سجلت بدورها استقرارًا نسبيًا، ما جعل السوق المحلي يشهد تباطؤًا في المبيعات.
هل هو استقرار دائم أم مجرد فاصل زمني؟
رغم المؤشرات الإيجابية، فإن كثيرًا من الاقتصاديين يشككون في أن هذا الاستقرار قابل للاستمرار، ويرون أنه ناتج عن عوامل ظرفية مؤقتة وليس نتيجة إصلاح اقتصادي عميق. ومن أبرز التحديات التي تهدد هذا الاستقرار:
-
غياب قاعدة إنتاجية قوية: الاقتصاد السوري لا يزال يعاني من دمار واسع في البنية التحتية، وتراجع حاد في القطاعات الحيوية مثل الصناعة والزراعة.
-
الاعتماد على التحويلات الخارجية: مصدر الدولار الأساسي في البلاد ليس التصدير، بل الحوالات من الخارج، وهي مصادر غير مضمونة.
-
انعدام الشفافية في السياسة النقدية: لا تصدر تقارير دورية من المصرف المركزي توضح حجم الاحتياطي النقدي أو خطة الحكومة لتثبيت سعر الصرف.
-
غياب بيئة استثمارية مستقرة: رغم الحديث عن عودة الاستثمارات، فإن القوانين غير المشجعة، وغياب القضاء المستقل، ما يزالان عائقين رئيسيين.
هل هناك فائدة حقيقية للمواطن؟
كثير من السوريين ينظرون إلى هذا الاستقرار بشيء من الأمل، لكن الأثر الفعلي على معيشتهم ما يزال محدودًا. فالمواطن العادي يقيس الأمور بما يشتريه من الخبز، والدواء، والخضار، والكهرباء، وليس بتحركات العملات الرقمية أو تصريحات النشرات الاقتصادية.
حتى الآن، لم ينعكس استقرار الليرة بشكل ملموس على قدرته الشرائية. فالدخل لا يزال متدنٍ بشكل كبير، والأسعار لم تنخفض إلا بنسب ضئيلة. لكن الاستقرار يفتح نافذة لتحسين الظروف، إذا ما استُغلت جيدًا.
كيف يمكن ترسيخ هذا الاستقرار؟
حتى يتحول الاستقرار النسبي إلى استقرار حقيقي ومستدام، هناك خطوات ضرورية يجب أن تُتخذ:
-
دعم الإنتاج المحلي: لا يمكن للاقتصاد أن يصمد على الحوالات والمساعدات فقط، بل يجب النهوض بقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة.
-
إصلاح السياسات النقدية: يجب وضع خطة واضحة للسياسة المالية والنقدية، وإصدار تقارير دورية تعزز الشفافية والثقة.
-
إعادة هيكلة الدعم الحكومي: لا بد من إعادة النظر في طريقة توزيع الدعم لضمان وصوله إلى مستحقيه، دون أن يخلق فجوات تضخمية.
-
تشجيع الاستثمار: عبر تعديل القوانين وتسهيل الإجراءات، وتقديم ضمانات حقيقية للمستثمرين المحليين والخارجيين.
-
الاستفادة من التقارب الإقليمي: يجب توظيف التحولات الدبلوماسية لتعزيز الاقتصاد عبر مشاريع مشتركة واتفاقيات تجارية.
خاتمة: فرصة يجب أن لا تُهدر
الاستقرار الحالي لليرة السورية، مهما كان جزئيًا أو مؤقتًا، يُعد نافذة زمنية ثمينة لا يجب إهدارها. ففي بلد أنهكته الحرب والانهيار الاقتصادي، فإن كل لحظة استقرار تُعد كنزًا استراتيجيًا يجب أن يُستثمر بحكمة.
لكن الأمر لا يحتمل المجازفة، ولا يكفي فيه التعويل على تدخلات مؤقتة أو حملات إعلامية. بل يتطلب ذلك رؤية اقتصادية عميقة، وإرادة سياسية جادة، وإشراك حقيقي للقطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل بناء قاعدة صلبة يمكن أن تنهض عليها سوريا اقتصاديًا، وتمكّن الليرة من استعادة جزء من قوتها وكرامتها.
ولعل القادم يحمل الإجابة الحاسمة: هل سنشهد استمرارًا في تحسن قيمة الليرة؟ أم أن هذا الاستقرار ليس سوى وهم مؤقت سرعان ما يزول؟