في مشهد يعكس صمود الاقتصاد السوري رغم سنوات الحرب والدمار، تشهد مدينة حلب الصناعية – وتحديدًا منطقة الشيخ نجار – نهضة لافتة مع عودة ما يقارب 960 منشأة صناعية إلى العمل والإنتاج. هذا التطور الذي يُعد بمثابة “نبض حياة” في قلب المدينة المدمّرة، يحمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية تتجاوز مجرد أرقام التشغيل، ليكون مؤشرًا فعليًا على أن عجلة الصناعة بدأت تدور من جديد، ولو ببطء وتحديات جسيمة.
في هذا المقال، نسلّط الضوء على قصة إعادة النهوض من تحت الركام، وتفاصيل العمل الجاري لإحياء واحدة من أكبر المدن الصناعية في سوريا، ومدى تأثير هذا الانتعاش على الاقتصاد الوطني والمعيشة اليومية للسوريين، انطلاقًا من حلب إلى عموم البلاد.
الشيخ نجار: من رماد الحرب إلى نهوض الإنتاج
كانت المدينة الصناعية في الشيخ نجار تُعدّ قبل عام 2011 واحدة من أهم المناطق الصناعية في سوريا، بمساحة تقارب 4,400 هكتار، تضم عشرات المعامل ومئات الورش الصغيرة في قطاعات النسيج، الصناعات الغذائية، الكيميائية، الدوائية، والآلات.
لكن مع تصاعد النزاع المسلح، تحوّلت هذه المنطقة إلى ساحة معارك بين الفصائل المسلحة والجيش السوري، ما أدى إلى تدمير معظم البنية التحتية، ونهب محتويات المصانع، وهروب رأس المال الصناعي نحو مناطق أكثر أمانًا، داخل سوريا وخارجها.
الآن، وبعد ما يقارب عشر سنوات من الخراب، تُعلن السلطات عن عودة نحو ألف منشأة صناعية إلى العمل، بينها مصانع كانت متوقفة بالكامل، وأخرى جرى تأهيلها بدعم خاص أو عام، مع خطط لتأهيل المرافق العامة والخدمات داخل المدينة الصناعية، من كهرباء وماء واتصالات وطرق.
من يقود عملية الإنعاش؟
عملية إعادة النهوض في الشيخ نجار تُدار على أكثر من مستوى:
-
الحكومة المحلية تعمل على إعادة البنى التحتية وتقديم تسهيلات إدارية للمستثمرين، مثل الإعفاءات الضريبية المؤقتة، وتأجيل رسوم الكهرباء والمياه.
-
القطاع الخاص، وخاصة الصناعيين الحلبيين في الداخل والمهجر، بدأوا بالعودة تدريجيًا للاستثمار، مستفيدين من الاستقرار النسبي والتحفيزات.
-
شراكات مع دول صديقة عبر عقود توريد للمعدات وإعادة إعمار المرافق، خاصة في قطاع الطاقة والاتصالات.
-
التمويل الذاتي لبعض المنشآت التي أعاد أصحابها تشغيلها بجهود فردية رغم انعدام القروض البنكية.
هذا التلاقي بين الإرادة الحكومية والدافع الفردي للمنتجين هو ما يشكّل نواة الانتعاش الحقيقي، ويعيد المدينة الصناعية إلى الواجهة.
التوزيع القطاعي: أي الصناعات تعود أولاً؟
من الملاحظ أن بعض القطاعات كانت أقدر على التعافي أسرع من غيرها، لأسباب تتعلق بالطلب المحلي، وسهولة إعادة التشغيل، وتوفر المواد الأولية:
-
الصناعات الغذائية: عادت بقوة نظرًا لحاجتها الملحة في السوق المحلية، وقلة اعتمادها على آلات معقدة أو مواد مستوردة.
-
النسيج: يُعتبر من أعمدة الصناعة في حلب، وقد بدأت عشرات الورش الصغيرة بمعاودة العمل، مستهدفة الأسواق الداخلية وبعض أسواق التصدير المجاورة.
-
الصناعات الدوائية: أعادت عدة شركات تشغيل خطوط إنتاجها لتغطية جزء من النقص في السوق المحلية.
-
الصناعات البلاستيكية والكيماوية: وهي من الصناعات الخفيفة التي لا تحتاج تجهيزات ضخمة، مما سهّل عودتها تدريجيًا.
تأثير اقتصادي مباشر على المدينة
عودة 960 منشأة صناعية للعمل في الشيخ نجار لا تعني فقط زيادة في الناتج المحلي، بل تشمل آثارًا متعددة الجوانب:
-
خلق فرص عمل: تشير التقديرات إلى أن كل منشأة تُشغّل من 10 إلى 200 عامل بشكل مباشر، ما يعني توفير آلاف الوظائف في مدينة تعاني من بطالة مرتفعة.
-
تنشيط الأسواق المحيطة: الأسواق التجارية، النقل، محطات الوقود، المطاعم، وحتى قطاع الإيجارات شهدت انتعاشًا واضحًا بفعل النشاط الصناعي.
-
دعم الليرة السورية: أي زيادة في الإنتاج المحلي تعني تقليل الاعتماد على الاستيراد، وبالتالي تخفيف الضغط على الدولار.
-
إعادة الثقة: وهي من أهم العوامل النفسية والرمزية، إذ يشعر المواطن بأن عجلة الاقتصاد بدأت تدور من جديد، ولو بشكل جزئي.
التحديات التي تهدد استمرار الانتعاش
رغم الإيجابيات، لا تزال التحديات كبيرة:
-
ضعف البنية التحتية: الكهرباء لا تزال تصل بشكل متقطع، والطرق تحتاج صيانة، وشبكات الصرف والإنترنت متردية.
-
ارتفاع كلفة المواد الأولية: بسبب الحصار والعقوبات، يجد الصناعيون صعوبة في استيراد المكونات الأساسية.
-
ضعف التمويل: البنوك لا تمنح قروضًا كافية، وصناديق الدعم الحكومي لا تغطي إلا جزءًا صغيرًا من الاحتياجات.
-
غياب الحماية القانونية: ما تزال هناك ثغرات في العقود، وغياب آليات تحكيم فعالة، ما يُعرض المستثمرين للمخاطر.
آمال الصناعيين
الصناعيون الحلبيون الذين استأنفوا أعمالهم يأملون في ثلاث أمور رئيسية:
-
الاستقرار السياسي والأمني: أي تدهور جديد في الأمن سيعني هروب الاستثمارات مجددًا.
-
فتح خطوط التصدير: إلى العراق ولبنان والأردن، حيث السوق الحلبية كانت تتمتع سابقًا بحصة كبيرة.
-
الدعم التقني والجمركي: عبر إعفاءات ضريبية، وتخفيض كلفة الطاقة، وتسهيل إدخال المعدات.
البعض يقترح إنشاء مناطق صناعية خاصة داخل الشيخ نجار، بامتيازات أكبر، لتشجيع المستثمرين الكبار، وإعادة الشركات الأجنبية التي كانت حاضرة قبل 2011.
كيف يرى المواطن الحلبي هذا التحول؟
رغم الإحباطات التي سببتها الحرب والانهيار الاقتصادي، إلا أن المواطن الحلبي بطبيعته يتعلّق بأي مؤشر إيجابي، ويرى في الصناعة “هوية المدينة” التي لا يجب أن تموت. ففي عيون الحلبيين، ليست العودة إلى العمل مجرد رزق، بل كرامة و”أصل الحرفة” و”حياة الناس”.
وقد لوحظ عودة مئات الحرفيين وأصحاب الورش من المهجر، خاصة من تركيا، وقيامهم بإعادة فتح معامل صغيرة في الشيخ نجار، بما يؤكد أن الارتباط بالمدينة لم ينقطع رغم النزوح.
هل يمكن تعميم التجربة على مدن سورية أخرى؟
النجاح النسبي في الشيخ نجار يمكن أن يتحول إلى نموذج للتعافي الاقتصادي في باقي المدن السورية، إذا توفرت الإرادة والإمكانات. المدن الصناعية في دمشق، حمص، وطرطوس، قادرة على استنساخ التجربة إذا:
-
وُضعت خطط دعم واقعية ومباشرة.
-
تم التنسيق مع القطاع الخاص بمرونة.
-
أُعيد بناء الثقة بين الدولة والمستثمر.
الشرط الأساسي هو عدم تسييس الاقتصاد، ومنح الأولوية للمصلحة الوطنية فوق الاعتبارات الأمنية أو المحسوبيات الإدارية.
خاتمة: الصناعة أولاً… إذا أردنا النهوض
عودة 960 منشأة صناعية في حلب للعمل ليس مجرد رقم في نشرة اقتصادية، بل هو عنوان لإرادة الحياة لدى السوريين. حلب التي دُمّرت، لم تمت. وهي تثبت مرة أخرى أن المدن التي تعرف الصناعة لا تنكسر، بل تعود، مهما طال الغياب.
لكن المطلوب اليوم هو البناء على هذا الإنجاز، لا الاكتفاء به. عبر التخطيط الاستراتيجي، ودعم المبادرات الفردية، وإشراك الكفاءات، ووضع الصناعة في قلب أي مشروع وطني للتعافي.
فلا يمكن لسوريا أن تتعافى فعلاً إذا لم تعُد حلب “عاصمة الإنتاج” كما كانت دومًا.