في ظل تحولات جيوسياسية متسارعة تشهدها المنطقة، تتجه العلاقات بين بغداد ودمشق إلى طور جديد من التعاون الاستراتيجي، خصوصًا على الصعيد الاقتصادي، وذلك بعد إعلان العراق عن استئناف تصدير النفط عبر خط كركوك – بانياس، وإرساله شحنة قمح عاجلة إلى سوريا. هذه الخطوة، التي جاءت بشكل مفاجئ نسبيًا، تعكس رغبة متبادلة في إحياء العلاقات الاقتصادية القديمة، وإيجاد مساحات مشتركة في ظل تحديات داخلية تواجه البلدين على حد سواء.
التحرك العراقي يُفهم في سياق أوسع من مجرد “إغاثة جارة”، بل كخطوة تحمل رسائل متعددة، اقتصادية وسياسية، إلى المجتمعين العربي والدولي. في هذا المقال، نستعرض تفاصيل هذا التقارب، خلفياته، تداعياته، وما إذا كان يشكّل نقطة انعطاف حقيقية في خارطة العلاقات الإقليمية.
النفط من كركوك إلى بانياس: عودة الخط بعد سبات طويل
يُعد خط كركوك – بانياس أحد أقدم خطوط نقل النفط في الشرق الأوسط، وكان يُستخدم بكثافة منذ منتصف القرن الماضي لتصدير النفط العراقي عبر الساحل السوري على البحر المتوسط، قبل أن يتوقف لأسباب تتعلق بالحروب، العقوبات، وتدهور البنية التحتية.
إعادة تشغيل هذا الخط تمثل انتصارًا اقتصاديًا للطرفين. فبالنسبة لسوريا، هو مصدر محتمل لمادة حيوية تعاني من نقصها منذ سنوات الحرب، بينما يمكّن العراق من تصدير نفطه عبر ميناء بديل، يُخفف الضغط عن البصرة ويوفر منفذًا استراتيجيًا على المتوسط.
هذه الخطوة لا تُعد رمزية فقط، بل عملية وواقعية، خاصة في ظل أزمة الطاقة التي تعصف بسوريا، وما يرافقها من نقص حاد في الوقود وارتفاع أسعار المشتقات البترولية، وهو ما انعكس على كل مجالات الحياة من النقل إلى الزراعة إلى الصناعة.
شحنة القمح: دعم غذائي في توقيت حساس
لم يكن النفط وحده محور التقارب العراقي السوري، بل جاءت أيضًا شحنة قمح عاجلة أرسلها العراق إلى سوريا كنوع من الدعم الإنساني – الاستراتيجي، خصوصًا في ظل التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي السوري من جفاف وتراجع إنتاج القمح.
الشحنة، والتي قُدّر حجمها بمئة ألف طن، تُعتبر دفعة قوية لمخزون الدولة السورية من هذه المادة الأساسية، وقد تُخفف الضغط عن المؤسسة السورية للحبوب، وتساهم في استقرار نسبي في سوق الخبز، الذي يمثل العصب اليومي للغذاء السوري.
في بلد يعاني من تضخم مزمن وشح الموارد، فإن شحنة كهذه ليست مجرد إغاثة طارئة، بل تحمل دلالات سياسية واضحة: العراق يدعم استقرار سوريا، ويرغب في استعادة العلاقات العميقة بين الشعبين.
السياق السياسي للتقارب: عودة لمحور دمشق – بغداد
لفهم أبعاد هذا التقارب، لا بد من استحضار العلاقة التاريخية بين دمشق وبغداد، التي شهدت تقلبات كبيرة خلال العقود الماضية، بين عداء سياسي في التسعينات، ثم تقارب تدريجي بعد 2003، ثم تجميد شبه كامل مع اشتداد الأزمة السورية عام 2012.
اليوم، تتلاقى مصالح البلدين مجددًا على قاعدة الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والتكامل الاقتصادي. فكل من سوريا والعراق يواجه تحديات اقتصادية عميقة، وتهديدات من تنظيمات مسلحة لا تزال تنشط في المناطق الحدودية، وتحتاج إلى تنسيق مستمر.
من هنا، فإن إعادة تصدير النفط، وإرسال القمح، لا يُمكن فصله عن سياق أوسع يشمل إعادة تنشيط العمل السياسي والاقتصادي بين البلدين، خصوصًا مع تزايد الضغوط الشعبية في كلا البلدين لتحسين الأوضاع المعيشية.
البُعد الاقتصادي: فرص حقيقية أم تقارب رمزي؟
من الناحية الاقتصادية، يمكن لهذا التقارب أن يُعيد للعراق وسوريا شبكة مصالح منسية، تشمل:
-
التبادل التجاري المباشر عبر المعابر الحدودية.
-
توسيع الربط الطاقي في مجالات الغاز والكهرباء.
-
إقامة مناطق صناعية مشتركة في مناطق حدودية مثل البوكمال والقائم.
-
تنشيط الاستثمار في قطاعي النقل والزراعة، خاصة مع توافر الأيدي العاملة السورية وانخفاض الكلفة الإنتاجية.
لكن تبقى التحديات كبيرة، منها العقوبات الغربية المفروضة على سوريا، وحذر بعض الشركات العراقية من الدخول في مشاريع مشتركة قد تُعتبر “مخالفة” للعقوبات. لذا، فإن الإرادة السياسية وحدها لا تكفي، بل يتطلب الأمر رؤية اقتصادية ذكية تُراعي الواقع القانوني الدولي.
الجانب الشعبي: كيف يرى السوريون والعراقيون هذا التقارب؟
في دمشق، قوبلت الأخبار حول القمح والنفط العراقي بترحيب واسع، حيث انتشرت تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تشكر الشعب العراقي على “وقوفه إلى جانب السوريين في الوقت الصعب”. هذا النوع من الدعم يحمل بعدًا وجدانيًا خاصًا، إذ يشعر السوريون بأنهم لم يُتركوا وحدهم في مواجهة الأزمة.
أما في العراق، فقد ظهرت آراء متباينة: بعض العراقيين رأوا أن على الحكومة أن تُركّز على الداخل أولاً، بينما دافع آخرون عن الخطوة بوصفها واجبًا أخلاقيًا وجزءًا من رؤية العراق للعب دور إقليمي أكثر فعالية.
من الرابح الحقيقي في هذا التقارب؟
إذا ما استمر هذا المسار، فإن الرابحين سيكونون كُثر:
-
سوريا، التي ستحصل على موارد حيوية (النفط، القمح، الكهرباء) تسهم في كبح الانهيار الاقتصادي.
-
العراق، الذي سيعزز نفوذه الجيوسياسي، ويوسّع أسواقه ويستثمر منفذًا جديدًا للتصدير.
-
المنطقة ككل، إذ أن التعاون الاقتصادي يقلل من التوتر، ويُغني عن المواجهات الأمنية.
كما أن هذا التقارب يُرسل رسائل إلى الخارج، مفادها أن دول الجوار السوري يمكن أن تتعاون بشكل مستقل عن الأجندات الغربية، وتحاول بناء نموذج من “الواقعية الإقليمية” التي تقوم على المصالح لا على الإملاءات.
العراق وسوريا: تكامل محتمل أم تحالف ظرفي؟
رغم أن السياق الإقليمي لا يزال مضطربًا، لكن يمكن القول إن العراق وسوريا أمام فرصة نادرة لإعادة بناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد. فالعراق بحاجة إلى منفذ جديد على المتوسط، وسوريا بحاجة إلى مورد موثوق للنفط والحبوب، وكلاهما يعاني من فقدان شبكات الإمداد التقليدية.
إذا نجح الطرفان في تجاوز العقبات، ووضع خطط تنفيذية واقعية، فقد يتحول هذا التقارب إلى تحالف اقتصادي ممتد، يُعيد تشكيل بعض ملامح التوازن في المشرق العربي.
تحديات في الطريق
بطبيعة الحال، هناك جملة من التحديات قد تعرقل هذا المشروع:
-
العقوبات الأمريكية التي تفرض قيودًا على الشركات والمؤسسات المتعاملة مع دمشق.
-
الوضع الأمني غير المستقر على الحدود العراقية السورية.
-
الفساد الإداري والبيروقراطية، التي قد تُبطئ تنفيذ المشاريع المشتركة.
-
غياب آلية مؤسسية واضحة للتعاون، حيث لا تزال معظم الاتفاقيات قائمة على تفاهمات شفهية أو مؤقتة.
خاتمة: خطوة أولى… في طريق طويل
عودة تصدير النفط من العراق إلى سوريا، وإرسال شحنة القمح، ليست مجرد “إغاثة مؤقتة”، بل هي بداية محتملة لعصر جديد من التعاون الاقتصادي الإقليمي، قائم على المصالح المتبادلة بعيدًا عن الشعارات والعقوبات.
المرحلة القادمة ستكون اختبارًا حقيقيًا لهذا التقارب: هل ستُتبع هذه الخطوة بمشاريع واقعية تُغيّر من شكل العلاقة؟ أم أن الظروف الداخلية والخارجية ستُجهض هذه الفرصة كما حدث كثيرًا في الماضي؟
كل ما هو مؤكد أن شعبي العراق وسوريا يستحقان أكثر من رسائل تضامن… إنهما بحاجة إلى مشاريع حقيقية تُعيد الثقة بالحياة والإنتاج، وتفتح أبواب المستقبل.