Shopping Cart
Total:

$0.00

Items:

0

Your cart is empty
Keep Shopping

«يمشون فوق الموت»: خطر الألغام يهدد العائدين لقراهم شمال غربي سوريا

على أطراف بلدات إدلب وحلب وريف حماة، وفي حقول الزيتون ومزارع القمح المهجورة، يتكرر مشهد مرعب: مدنيون عائدون إلى قراهم بعد سنوات من النزوح، يمشون بحذر فوق أرض يعرفون أنها قد تكون مفخخة بالموت. الألغام الأرضية، ومخلفات الحرب من عبوات ناسفة وقذائف غير منفجرة، باتت جزءًا من المشهد اليومي في الشمال السوري، بعد أن هدأت المعارك، وبدأت أعداد من الأهالي تعود إلى منازلهم المدمرة أو المتصدعة، بحثاً عن الأمان والاستقرار.

هذا الواقع المرير لا يُهدد فقط أرواح المدنيين، بل يعرقل جهود الإغاثة، ويقف عائقًا أمام أي أمل في التعافي وإعادة الإعمار. فبين كل منزل ومدرسة، وحقل وممر ترابي، يحتمل أن يكون هناك لغم، أو عبوة ناسفة مزروعة من قبل أطراف متعددة على مدى سنوات النزاع المعقد.

في هذا المقال، نرصد أبعاد هذه الكارثة الصامتة التي تفتك بالمدنيين في زمن السلم، ونبحث في أسبابها، تداعياتها، وجهود تفكيكها، وما إذا كان هناك أمل فعلي في جعل هذه الأرض آمنة من جديد.


حقول موت: ما بعد المعركة ليس سلاماً

قد يكون من المفارقة القاسية أن الحرب حين تنتهي، لا ينتهي الخطر معها، بل يبدأ فصل آخر من القتل البطيء. ففي العديد من قرى وبلدات الشمال الغربي السوري، بدأت العائلات تعود بعد سنوات من النزوح الداخلي، لتفاجأ بواقع أخطر من القصف: البيوت المفخخة، الطرقات الملغمة، والألغام المزروعة بين الأشجار.

وبينما يظن البعض أن الألغام تُستخدم فقط في الجبهات، فإن الواقع يُظهر أنها كانت تُزرع أيضًا في المنازل، المدارس، المساجد، وحتى في الألعاب وأدوات المطبخ، ما يجعل العودة إلى الحياة الطبيعية مخاطرة كبيرة.

أطفال فقدوا أطرافهم أثناء اللعب، مزارعون انفجرت فيهم ألغام أثناء حراثة الأرض، نساء قتلن أثناء محاولتهن جمع الحطب أو الماء… قائمة الضحايا تطول، والقصص تزداد مأساوية.


من زرع الموت في الأرض؟

يُشير المشهد الميداني إلى أن الألغام وُضعت على مدار سنوات من قِبل أطراف متعددة:

  • قوات النظام، التي استخدمت الألغام كوسيلة دفاعية في محيط الثكنات والمناطق التي انسحبت منها.

  • الفصائل المسلحة المختلفة، والتي اعتمدت على تفخيخ الطرقات ومداخل القرى تحسبًا لأي هجوم مضاد.

  • تنظيمات متطرفة، اعتمدت سياسة الأرض المفخخة كوسيلة لإبقاء السيطرة النفسية حتى بعد انسحابها من المنطقة.

  • ألغام عشوائية أو قذائف لم تنفجر، بفعل القصف الجوي والبري المكثف الذي تعرضت له المنطقة.

هذا التعدد في المصادر، واختلاف أنواع المتفجرات المستخدمة، يجعل من عملية الكشف عنها وتفكيكها أمرًا بالغ التعقيد، ويزيد من كلفة وجهود إزالة الألغام.


هل هناك خرائط للألغام؟

واحدة من أكبر الإشكاليات التي تواجه فرق إزالة الألغام هي غياب الخرائط الرسمية لمواقع زرع الألغام. فأغلب الأطراف التي زرعت هذه المواد الناسفة، إما انسحبت دون ترك بيانات، أو لم تُوثّق مواقعها أساساً.

وبالتالي، يعتمد العمل على الرصد الميداني اليدوي، والتحقيق في شهادات الأهالي، واستخدام أجهزة الكشف عن المعادن، وهي وسائل لا توفر الأمان الكامل، خاصة أن بعض الألغام مزودة بآليات تفجير بالضغط أو الحركة أو حتى عبر الإشارات اللاسلكية.

غياب الخرائط يعني أن كل حقل وكل منزل وكل طريق فرعي يجب اعتباره منطقة خطر إلى أن يُثبت العكس، وهو ما يعقّد مهمة إعادة الإعمار والتنقل بشكل كبير.


من يدفع الثمن؟ المدنيون أولاً

الضحايا الرئيسيون لهذه الكارثة هم المدنيون العائدون إلى قراهم، وخاصة الأطفال والنساء وكبار السن. ففي الأشهر الأخيرة فقط، سجلت عشرات الحوادث المميتة في ريف إدلب وحلب، كانت ضحيتها عائلات بأكملها أثناء محاولتها إعادة إعمار منازلها أو استصلاح أراضيها الزراعية.

الحوادث تتكرر يوميًا، وغالبًا ما يُضطر السكان إلى نبش الأنقاض بأيديهم بحثًا عن لغم، أو يقومون بتمشيط الأراضي بالطرق التقليدية (عصي، حجارة)، وهي وسائل بدائية لا تمنع الكارثة بل تؤخرها.

الأطباء في المستشفيات الميدانية بالشمال السوري يتحدثون عن زيادة مقلقة في عدد المصابين ببتر الأطراف، الإصابات البليغة، والحروق العميقة، وكلها ناتجة عن انفجارات ألغام أو عبوات ناسفة.


التعليم معرّض للخطر

من المدارس التي تحولت إلى أنقاض، إلى الساحات المفخخة، يواجه الأطفال خطرًا مضاعفًا: فمن جهة، يُحرمون من التعليم، ومن جهة أخرى، قد تؤدي عودتهم إلى المدارس إلى وقوع مأساة، إذا لم يتم تمشيط الأبنية والساحات بشكل كامل.

وقد سجلت بعض المدارس حوادث مؤسفة بعد العودة، حيث انفجرت عبوات ناسفة في غرف دراسية أو باحات لعب. هذا الأمر جعل أولياء الأمور يترددون في إرسال أطفالهم إلى المدارس، مما يؤدي إلى حرمان جيل كامل من حقه في التعليم.


جهود نزع الألغام: محاولات لا تكفي

رغم محدودية الموارد، بدأت بعض المنظمات الإنسانية المحلية والدولية العمل على إزالة الألغام، أو على الأقل تحديد المناطق الخطرة وتسييجها. كما أُطلقت حملات توعية بين السكان، وجرى تدريب عدد من الفرق المحلية على التعامل مع الأجسام المشبوهة.

لكن كل هذه الجهود تبقى محدودة مقارنةً باتساع رقعة الخطر، إذ تشير التقديرات غير الرسمية إلى وجود مئات آلاف الألغام والعبوات في المناطق المحررة من النزاع، بعضها مخفي بطرق احترافية يصعب اكتشافها حتى بالوسائل التقنية.

المشكلة الأخرى أن بعض المناطق لا يمكن الوصول إليها لأسباب أمنية، أو بسبب خلافات سياسية بين الجهات المسيطرة، مما يُبقي سكان تلك المناطق تحت خطر دائم.


لماذا لا تتحرك الجهات الدولية بفاعلية؟

رغم إدراك المجتمع الدولي لخطورة هذا الملف، فإن الاستجابة الفعلية لا تزال ضعيفة لأسباب عدة:

  • تشابك المشهد السوري سياسيًا، وصعوبة العمل في مناطق خارجة عن سيطرة النظام.

  • العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، والتي تحد من قدرة المنظمات على العمل بحرية.

  • غياب الإرادة السياسية في بعض الدول لدعم جهود إزالة الألغام، في ظل انشغال العالم بملفات أخرى.

بعض المنظمات أبدت استعدادًا للمساهمة في برامج إزالة الألغام، لكن حتى الآن لم تُنشأ آلية دولية محايدة ومنظمة للتعامل مع هذه الأزمة على مستوى شمال غرب سوريا.


مناشدات لا تتوقف

في كل بيان، وفي كل مناسبة، تطالب الجهات المحلية والمجتمعات الأهلية بما يلي:

  1. إنشاء برنامج وطني لإزالة الألغام، بإشراف مشترك من جهات محلية ومنظمات دولية محايدة.

  2. توفير أجهزة كشف حديثة، وتدريب فرق محلية للعمل بشكل أكثر احترافية.

  3. تمويل فرق الإسعاف والإغاثة الطبية الميدانية لعلاج المصابين بشكل سريع.

  4. حملات توعية واسعة النطاق، خاصة في القرى التي بدأ سكانها بالعودة.

  5. إجبار الجهات التي زرعت الألغام على تقديم خرائط أو شهادات عن مواقعها، ولو عبر وسطاء دوليين.


الألغام تهدد التنمية والاقتصاد

الحديث عن إعادة الإعمار، أو استثمار الأراضي الزراعية، أو حتى إعادة فتح الطرق التجارية، لا يمكن أن يتحقق في ظل وجود ألغام. فكل مشروع تنموي سيتطلب أولاً إزالة الخطر القاتل الكامن تحت التراب.

منظومة التنمية متوقفة في شمال غرب سوريا بسبب هذه العقبة الكبرى، والجهود الهندسية التي بُذلت حتى الآن غير قادرة على مواكبة حاجة السكان الملحة للاستقرار والإنتاج.


الخاتمة: لا سلام على أرض مفخخة

قد تكون الحرب في شمال غرب سوريا قد تراجعت حدّتها، لكن الألغام تضمن أن الخطر باقٍ، وأن الضحايا مستمرون. لا يمكن أن يُقال إن الأرض آمنة ما دام كل حجر قد يخفي خلفه عبوة، وما دام كل طريق قد ينتهي بانفجار.

الحل ليس فقط تقنيًا، بل سياسي وإنساني. وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن إزالة الألغام ليست ترفًا، بل ضرورة لبقاء الحياة.

فالأرض التي لا يستطيع الناس أن يمشوا عليها بأمان، لا يمكن أن تُزرع أو تُبنى أو تُحب. وإن أردنا مستقبلًا سوريًا مستقرًا، فليكن أول ما نفعله: نزع الموت من الأرض.

Show Comments (0) Hide Comments (0)
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x