في زوايا العاصمة السورية دمشق، لم يعد مشهد الأطفال والنساء والشيوخ من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يتسولون في الشوارع أمرًا استثنائيًا. باتت الأرصفة، إشارات المرور، ومداخل الأسواق، مسرحًا يوميًا لصور إنسانية قاسية، حيث تظهر أجساد هزيلة، كراسي متحركة صدئة، عكازات قديمة، وأصوات متقطعة تستجدي لقمة أو عملًا أو دواءً.
ورغم أن التسوّل ظاهرة ليست جديدة في المدن الكبرى، فإن ما يُثير القلق اليوم هو ازدياد أعداد المتسولين من فئة ذوي الإعاقة بشكل لافت، بما يعكس أزمة أعمق بكثير من مجرد فقر فردي. إنها أزمة في المنظومة الاجتماعية، الصحية، والتعليمية، وحتى في بنية الضمير العام.
في هذا المقال، نسلط الضوء على هذه الظاهرة الإنسانية المتفاقمة، نحاول فهم أسبابها، استعراض تداعياتها، ونقترح حلولًا واقعية تتجاوز المعالجة الأمنية أو الشكلية.
بين الحاجة والاستغلال: من المسؤول؟
عند النظر إلى هذه المشاهد المؤلمة، يتبادر إلى الذهن تساؤلان: هل هؤلاء الأشخاص يتسولون لأنهم بحاجة فعلية؟ أم أن هناك من يستغل إعاقتهم ويوظفهم ضمن شبكات منظمة تتاجر بالبؤس الإنساني؟
الحقيقة المؤسفة أن كليهما صحيح. فهناك شريحة واسعة من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لم يجدوا أي دعم حكومي أو مؤسسي، واضطروا للجوء إلى الشارع بعد أن سُدت في وجوههم أبواب العمل والتعليم والرعاية. وهناك آخرون، وخصوصًا من الأطفال، يتم استغلالهم من قبل عصابات تسوّل تُجبرهم على جمع المال مقابل المأوى والطعام.
هذا الاستغلال يتم في وضح النهار، وأحيانًا برعاية “أسر بديلة” تتبناهم ظاهريًا، بينما تحرمهم من أبسط حقوقهم في الكرامة.
الإعاقة لا تعني العجز… لكن الدولة غائبة
يُجمع المتخصصون في قضايا الإعاقة على أن الدمج المجتمعي والتأهيل والتشغيل هم ثلاث ركائز أساسية لتمكين ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن في سوريا، وبخاصة بعد سنوات الحرب، يكاد يغيب أي برنامج وطني فعّال يُعنى بهذه الفئة.
البيئة غير مهيأة:
-
لا طرق مخصصة لذوي الإعاقة الحركية.
-
لا مدارس مؤهلة لاستقبال الأطفال من ذوي الإعاقات البصرية أو السمعية.
-
لا مؤسسات تدريب مهنية مصممة خصيصًا لهم.
-
لا قانون يُطبق بجدية على أصحاب العمل لتشغيل نسبة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
والنتيجة؟ شريحة كاملة من المجتمع تُدفع نحو الهامش، وتُترك لتواجه مصيرها منفردة، وسط انهيار اقتصادي وانعدام فرص.
الحرب زادت الطين بلّة
قبل عام 2011، كانت سوريا تحتفظ بنسبة معينة من البرامج الاجتماعية المحدودة لدعم ذوي الإعاقة، سواء عبر وزارة الشؤون الاجتماعية أو بعض الجمعيات الخيرية. لكن الحرب غيّرت كل شيء.
-
آلاف السوريين أُصيبوا بإعاقات دائمة نتيجة القصف، الألغام، والانفجارات.
-
مراكز التأهيل تم تدميرها أو إغلاقها.
-
المانحون الدوليون توقفوا عن التمويل، أو وجهوه لأغراض إنقاذ عاجلة بدلًا من الدعم طويل الأمد.
-
الدولة أعادت توجيه أولوياتها نحو القضايا الأمنية والسياسية، تاركة الفئات الهشة تعاني بصمت.
وبالتالي، فإن نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة ارتفعت، بينما مستوى الدعم والرعاية انخفض إلى أدنى مستوياته.
تسوّل الإعاقة… جرح في الضمير العام
أمام هذه المشاهد اليومية، يتساءل المواطن السوري العادي: هل أنا ملزم بإعطاء المال لهذا الطفل أو الرجل المُقعد؟ هل هو فعلاً بحاجة؟ أم أنني أشارك، دون قصد، في تمويل شبكة منظمة؟
هنا، تكمن المعضلة الأخلاقية. فالإحساس بالشفقة يدفع كثيرين إلى تقديم المساعدة، لكن كثافة الظاهرة، وتكرار نفس الأشخاص في نفس الأماكن، تُثير شكوكًا مقلقة.
ما بين الإحسان والخوف من التواطؤ، يقف الشارع السوري حائرًا، بينما تغيب الرقابة الحقيقية من الجهات المعنية، التي غالبًا ما تكتفي بحملات موسمية لـ”جمع المتسولين”، دون معالجة السبب الحقيقي للظاهرة.
الجمعيات والمنظمات: جهود فردية لا تكفي
هناك عدد من الجمعيات الخيرية السورية التي ما زالت تحاول العمل في ظل الظروف القاسية، وتقدم خدمات محدودة في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنها تعاني من:
-
نقص في التمويل والدعم الرسمي.
-
غياب الاعتراف القانوني الكامل.
-
تضييقات أمنية أو إدارية.
-
اعتمادها على متطوعين غير محترفين أحيانًا.
بعض هذه الجمعيات أنشأت مشاغل حرفية صغيرة لتدريب وتأهيل ذوي الإعاقة، لكن هذه المبادرات بقيت محصورة في نطاق ضيّق ولم تُعمّم على مستوى البلاد.
ما الذي يجب فعله الآن؟
لا يمكن إيقاف هذه الكارثة الإنسانية فقط عبر “سحب المتسولين من الشارع”، بل من خلال استراتيجية شاملة، تتضمن:
1. إعادة تعريف دور الدولة
يجب أن تتحول وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من جهاز بيروقراطي إلى مؤسسة حيوية ترعى هذه الفئة بجدية، وتُنسق مع منظمات المجتمع المدني، وتطلق برامج وطنية حقيقية.
2. إطلاق قاعدة بيانات وطنية
لإحصاء ذوي الاحتياجات الخاصة، وتصنيفهم حسب نوع الإعاقة، وتحديد احتياجاتهم، وربطهم بمراكز مختصة.
3. فرض قانون تشغيل ذوي الإعاقة
عبر تفعيل النسبة المخصصة لهم في المؤسسات العامة والخاصة، ومكافأة أصحاب الأعمال الذين يشملونهم في خططهم.
4. تأهيل المرافق العامة
من أرصفة، ومؤسسات حكومية، ومدارس، وجامعات، لتكون مناسبة لحركتهم واستقلالهم.
5. مكافحة استغلالهم في التسوّل
بإنشاء وحدة خاصة لمتابعة قضايا استغلال الإعاقة، وبالتعاون مع الجهات القضائية والإعلامية.
كيف يتفاعل الشارع السوري؟
ما يزال التفاعل الشعبي مع هذه الظاهرة متأرجحًا. البعض يُبدي تعاطفًا كبيرًا، ويساعد بقدر استطاعته، والبعض الآخر يمرّ دون أن يلتفت، بحكم الاعتياد أو القنوط.
وفي المقابل، تظهر مبادرات فردية لافتة، مثل مجموعات شبابية تقوم بتوزيع كراسي متحركة، أو توصيل مساعدات مباشرة للأسر الفقيرة من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنها تفتقر إلى الغطاء القانوني والدعم الرسمي.
الإعلام بين التغطية والتجاهل
للأسف، يغيب الإعلام السوري – الرسمي والخاص – إلى حد كبير عن تناول هذه القضية بجدية. لا تحقيقات استقصائية، لا تقارير إنسانية معمقة، ولا نقاشات حقيقية على المنصات التلفزيونية.
ويقتصر الاهتمام غالبًا على المناسبات مثل “اليوم العالمي لذوي الإعاقة”، حيث تُبث تقارير سطحية، وتُجرى مقابلات بروتوكولية، ثم يُطوى الملف حتى العام المقبل.
هل هناك أمل؟
رغم كل هذه المعاناة، يبقى الأمل ممكنًا. فالشعب السوري أثبت مرارًا قدرته على التحدي، ومؤسساته – رغم ضعفها – يمكن أن تُعيد بناء ثقتها إذا ما تم تحفيزها وتشجيعها على العمل. ذوو الاحتياجات الخاصة ليسوا عبئًا، بل طاقة معطّلة يمكن أن تتحول إلى مصدر إبداع وإنتاج، إذا ما تم الاستثمار فيها بشكل صحيح.
إنقاذهم من الشارع ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل هو ضرورة وطنية وإنسانية، تعكس مدى رقي المجتمع، ووعيه بحقوق أبنائه الأضعف.