في مشهد يعكس عمق الأزمة الصحية والمعيشية في سوريا، تشهد أسعار الأدوية ارتفاعًا غير مسبوق منذ مطلع العام، وصلت فيه بعض الأصناف الأساسية إلى أربعة أضعاف سعرها السابق، ما جعل الكثير من المرضى عاجزين عن تأمين أدويتهم، خصوصًا المزمن منها، مثل أدوية الضغط، السكري، القلب، والمهدئات العصبية. وبينما يُحاول المواطن السوري التكيّف مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية، جاء الدواء هذه المرة ليُصبح رفاهية لا تُطاق.
هذا الارتفاع الحاد في الأسعار لا يُعزى فقط إلى تقلبات سعر الصرف أو العقوبات، بل إلى سياسات التسعير، وغياب الرقابة، وتراجع الإنتاج المحلي، والفساد الكامن في آلية التوزيع. في هذا المقال، نفتح ملف أزمة الأدوية من الداخل، نقرأ أبعادها، ونحاول الإجابة عن سؤال شائك: كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ وما الثمن الذي يدفعه المرضى؟ وهل من أمل في الحل؟
صيدليات خالية وأرفف فارغة
في شوارع دمشق وحلب وحمص، لم تعد الصيدليات تُلبّي الطلب كما كان في السابق. تسأل عن دواء معروف، فيُقال لك: غير متوفر… أو موجود لكن سعره تغيّر. وفي كثير من الحالات، يطلب الصيدلي من المريض العودة لاحقًا أو شراء دواء بديل أقل فعالية.
أصناف مثل:
-
“ميتفورمين” لمرضى السكري
-
“كابوتين” لضغط الدم
-
“ليفيكس” للمعدة
-
“أموكسيسيلين” كمضاد حيوي
-
“باراسيتامول” كخافض حرارة
كلها إمّا مفقودة أو بأسعار باهظة تفوق قدرة أصحاب الدخل المحدود. أما الأدوية المستوردة، فباتت شبه معدومة، ويُستعاض عنها بمحلية الصنع، أحيانًا أقل جودة أو غير كافية للحالة المرضية.
ارتفاع الأسعار… من يتحمل المسؤولية؟
تُشير البيانات إلى أن أسعار الأدوية ارتفعت بنسبة 100 إلى 300% خلال عام واحد فقط، وقد شملت هذه الزيادات كل من:
-
الأدوية المزمنة: الأكثر تضررًا من الغلاء، لارتباطها بحياة المريض اليومية.
-
المضادات الحيوية: ارتفع سعرها ليُصبح في بعض الحالات أغلى من كشف الطبيب.
-
الأدوية النفسية والعصبية: أصبحت نادرة ومكلفة، ما يُهدد استقرار الحالات الحرجة.
وتُعزى هذه الزيادات إلى عدة أسباب رئيسية:
1. انهيار سعر صرف الليرة السورية
مع هبوط قيمة الليرة أمام الدولار، ارتفعت كلفة المواد الأولية المستوردة لتصنيع الأدوية، خصوصًا أن معظم المواد الفعالة تأتي من الخارج.
2. تراجع الإنتاج المحلي
بعد أن كانت سوريا تُصدّر الدواء لدول عدة، توقفت مئات المعامل عن الإنتاج جزئيًا أو كليًا بسبب نقص الكهرباء، وصعوبة الاستيراد، وهجرة الفنيين.
3. سياسات تسعير حكومية غير مستقرة
تعديل الأسعار يتم بشكل عشوائي أو غير شفاف، وغالبًا ما يأتي متأخرًا، ما يدفع الشركات للإحجام عن الإنتاج بانتظار تسعيرة مجزية.
4. الاحتكار وتهريب الأدوية
بعض الأدوية تُهرب من لبنان أو الأردن، وتُباع بأسعار مضاعفة في السوق السوداء، ما يُربك الأسواق الرسمية ويُضعف الثقة بالمؤسسات الصحية.
المرضى بين المطرقة والسندان
الضحية الأولى في هذه الأزمة هو المريض الفقير، الذي يجد نفسه أمام خيارات قاسية:
-
الاستغناء عن الدواء، ما يعرضه لمضاعفات خطيرة.
-
شراء نصف الجرعة المطلوبة فقط.
-
اللجوء إلى الأعشاب أو طرق بديلة لا تخضع للرقابة.
-
الاستدانة من الأقارب لتأمين ثمن الدواء.
بعض مرضى السرطان لم يحصلوا على أدويتهم منذ شهور، ومرضى القلب يوقفون أدويتهم دون إشراف طبي، مما يرفع من معدلات الوفيات الصامتة، التي لا تُوثّق في الإحصاءات الرسمية.
الواقع داخل معامل الأدوية
المعامل الدوائية، التي كانت في يوم ما من مفاخر الصناعة السورية، أصبحت اليوم تُكافح للبقاء. تعاني من:
-
ارتفاع أسعار المواد الخام.
-
انقطاع الكهرباء المستمر.
-
صعوبات في الاستيراد بسبب القيود الدولية.
-
نقص العمالة المؤهلة بسبب الهجرة.
-
تضييق مالي وضرائبي.
وهكذا، فإن المصنع الذي كان ينتج 20 صنفًا في اليوم، أصبح يكتفي بإنتاج 5 أصناف فقط، وغالبًا لصالح السوق المحلية، دون تصدير أو ربح يُذكر.
دور الحكومة: أين وزارة الصحة؟
وزارة الصحة السورية تتحدث عن “خطة دعم للقطاع الدوائي” و”متابعة للأسعار”، لكنها في الواقع:
-
تعتمد على تسعير دوري متأخر، لا يُراعي تغيرات السوق.
-
لا تفرض رقابة حقيقية على تخزين الأدوية أو احتكارها.
-
لا توفر دعمًا ماليًا أو لوجستيًا لمعامل الإنتاج.
-
لا تُبرم عقودًا استيرادية مضمونة، بسبب العقوبات ومشاكل التحويلات البنكية.
كل هذا يجعل دور الوزارة في الحد الأدنى، ويترك الصيدلي بين ضغط المواطن، وضغط المورد، وسط فوضى سعرية وإدارية.
الصيدليات: بين المطرقة والسوق السوداء
الصيدلي بدوره يعيش أزمة لا تقل تعقيدًا:
-
مطلوب منه البيع بأسعار محددة من الوزارة، لكنه يشتري الدواء بسعر أعلى من المستودعات.
-
مهدد بإغلاق الصيدلية إن لم يلتزم بالتسعيرة.
-
لا يستطيع تخزين الأدوية المكلفة خوفًا من كسادها أو انتهاء صلاحيتها.
نتيجة لذلك، يُضطر بعض الصيادلة إلى التحايل أو التهرب، أو الامتناع عن بيع أدوية معينة، لتفادي الخسائر.
البحث عن حلول واقعية
رغم تشابك الأزمة، يمكن اتخاذ بعض الإجراءات لتخفيف آثارها:
1. إعفاء مدخلات الأدوية من الرسوم والضرائب
لتخفيض كلفة التصنيع ودعم المصانع المحلية.
2. إبرام اتفاقيات استيراد إنساني مع دول صديقة
كإيران أو روسيا أو الهند، لتأمين الأدوية الحرجة بأسعار مناسبة.
3. فتح المجال أمام المنظمات الدولية لدعم قطاع الدواء
عبر مساعدات مباشرة للمرضى أو للمستشفيات.
4. إنشاء صندوق وطني لدعم الأدوية المزمنة
يُموّل من التبرعات والضرائب، ويُدار بشفافية لضمان وصوله للمستحقين.
5. تنظيم السوق ومراقبة التسعير
عبر أدوات رقمية، لتتبع الأسعار والمخزون، ومنع التلاعب أو الاحتكار.
قصص من الميدان: المرضى يتكلمون
أبو عدنان، رجل سبعيني مصاب بالسكري، يقول:
“كنت أشتري دوائي بـ 3 آلاف ليرة، اليوم صار بـ 15 ألف. راتبي لا يكفي لدواء أسبوع، فصرت أتناول نصف الجرعة. أحاول أن أعيش بما يتبقى منّي.”هبة، أم لثلاثة أطفال، تقول:
“ابني عنده أزمة ربو. البخاخ غير متوفر. نبحث في كل الصيدليات، ولا نجد إلا في السوق السوداء بثلاثة أضعاف السعر. هل أتركه يختنق؟”
الخاتمة: عندما يصبح الدواء أمنية
أن يُحرم الإنسان من الغذاء مؤلم، لكن أن يُحرم من الدواء وهو مريض، فهذه مأساة مضاعفة. الدواء ليس ترفًا، بل حق أساسي من حقوق الإنسان، وغيابه يعني مزيدًا من المعاناة، والموت البطيء، والتفكك الاجتماعي.
إذا لم يتم احتواء هذه الأزمة، فإن انهيار المنظومة الصحية لن يكون مجرد خطر مستقبلي، بل واقعًا يوميًا يهدد حياة الملايين، ويُفرغ البلاد من أبسط مقومات العيش الكريم.