البطالة في سوريا… شبح يطارد الشباب ويخنق الاقتصاد
في بلد أنهكته الحرب، وتفككت مؤسساته، وانهارت بنيته الإنتاجية، لم يعد الحديث عن “البطالة” مقتصرًا على مؤشرات رقمية، بل أصبح واقعًا يوميًا يتسلل إلى البيوت والمدارس والجامعات والأسواق. فالشاب السوري، بعد سنوات من الدراسة والمعاناة، يصطدم بجدار اسمنتي من العجز والفراغ، حيث لا وظيفة، ولا فرصة، ولا أمل حقيقي ببناء مستقبل داخل البلاد.
البطالة اليوم ليست مجرد غياب عن العمل، بل انكسار للكرامة، وتآكل للثقة، وهدر لقدرات مجتمعٍ كامل. في هذا المقال، نرصد أبعاد هذه الظاهرة الكارثية، أسبابها المركبة، آثارها النفسية والاقتصادية، وتداعياتها الاجتماعية، ونطرح تساؤلات حول مستقبل الأجيال السورية في ظل هذا الانسداد الشامل.
أرقام صادمة… وشباب بلا أفق
تُعد البطالة في سوريا من أعلى المعدلات في المنطقة، خصوصًا في فئة الشباب بين 18 و35 عامًا، وهي الفئة العمرية التي تُفترض أن تقود عملية الإنتاج والنهضة.
الشباب الخريجون من الجامعات والمعاهد لا يجدون فرصًا للعمل، سواء في القطاع الحكومي الذي يعاني من التشبّع، أو في القطاع الخاص الذي تقلص بسبب انهيار الاقتصاد وضعف الاستثمار. في المقابل، يضطر البعض للعمل في مهن لا تتناسب مع مؤهلاتهم، أو اللجوء إلى سوق العمل غير الرسمي، الذي يفتقر لأي حماية قانونية أو استقرار.
من المسؤول؟ أسباب متعددة لتفاقم الأزمة
لا يمكن اختزال أسباب البطالة في عامل واحد، بل هي نتاج مجموعة من العوامل المتشابكة، أبرزها:
1. تدمير البنية الاقتصادية
الحرب أدت إلى توقف آلاف المصانع والمشاريع، وتضرر قطاعات حيوية كالسياحة، والزراعة، والصناعة، مما قلل من فرص العمل بشكل جذري.
2. انهيار القطاع العام
كان القطاع الحكومي في السابق يوظف مئات الآلاف، لكنه اليوم عاجز عن استيعاب المزيد بسبب ضعف التمويل، وهجرة الكفاءات، والتقشف الإداري.
3. ضعف القطاع الخاص
البيئة الاستثمارية طاردة، بفعل عدم الاستقرار الأمني، والعقوبات، والروتين الإداري، مما جعل القطاع الخاص يعزف عن التوظيف، أو يُوظف بأجور زهيدة.
4. نظام تعليمي غير مرتبط بسوق العمل
لا تزال الجامعات والمعاهد تخرج آلاف الطلاب كل عام، في تخصصات لا يحتاجها السوق، مما يُراكم جيوش العاطلين عن العمل في اختصاصات غير منتجة.
5. غياب برامج التأهيل والتشغيل
لا وجود فعلي لمبادرات حكومية شاملة تُعنى بتدريب الشباب، أو دعم المشاريع الصغيرة، أو تقديم منح تشغيلية، مما يُبقي الشباب في دوامة الانتظار أو الهجرة.
البطالة ومحنة النساء
النساء السوريات، رغم مشاركتهن المتزايدة في التعليم والعمل، يُواجهن واقعًا أكثر تعقيدًا. فعدا عن ضعف الفرص، تُفرض عليهن قيود اجتماعية ونظرة تقليدية تقلل من فرصهن بالتوظيف. كما أن كثيرًا من النساء اللواتي فقدن أزواجهن خلال الحرب يتحملن مسؤولية إعالة أسر كاملة، دون وجود دعم مؤسساتي فعلي.
وإذا توفرت فرصة عمل، فغالبًا ما تكون في القطاع غير الرسمي أو في مهن منخفضة الدخل والاستقرار، مما يُفاقم من هشاشة وضع المرأة الاقتصادي والاجتماعي.
الانعكاسات النفسية والاجتماعية
البطالة لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية، بل تُحدث تصدعات نفسية واجتماعية عميقة:
-
الإحباط وفقدان الثقة بالنفس، خاصة في أوساط الشباب المتعلم.
-
العزوف عن الزواج وتكوين الأسرة، بسبب غياب الاستقرار المالي.
-
انتشار الظواهر السلبية كالإدمان، التسول، العنف، والجريمة.
-
هجرة الأدمغة والكفاءات، بحثًا عن فرص خارج البلاد.
-
تآكل مفهوم المواطنة والانتماء، وشعور الكثيرين بأن الوطن لا يمنحهم أي فرصة للحياة الكريمة.
البطالة في الريف والمدينة
في الريف السوري، وخاصة في المناطق التي دُمّرت بنيتها الزراعية، يعيش الشباب في حالة من الفراغ القاتل. الأراضي الزراعية جافة، والأسواق مغلقة، والحياة الاقتصادية شبه مشلولة، مما دفع الآلاف إلى الهجرة نحو المدن أو خارج البلاد.
أما في المدن، فالبطالة تتخذ طابعًا مختلفًا: آلاف الخريجين يتنقلون بين الوظائف المؤقتة، أو يعملون في النقل، التوصيل، المهن الصغيرة، في غياب الاستقرار والديمومة.
من يملأ الفراغ؟ الاقتصاد الموازي
في ظل غياب فرص العمل المنظمة، نشأ ما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد الموازي”، والذي يتضمن:
-
المهن غير المرخصة كالبسطات، والسوق السوداء.
-
التجارة الإلكترونية العشوائية عبر منصات التواصل.
-
أعمال ذات طابع مؤقت أو موسمي، بلا أي حماية قانونية.
-
الاعتماد على الحوالات المالية من الخارج كمصدر دخل أساسي.
ورغم أن هذا النمط يُوفر دخلًا مؤقتًا لبعض الأسر، إلا أنه لا يمكن أن يشكل ركيزة لنمو اقتصادي مستدام، ولا يوفر أي حقوق للعاملين فيه.
البطالة والهجرة… وجهان لعملة واحدة
ليس من الغريب أن ترتبط أزمة البطالة بظاهرة الهجرة المتسارعة، خاصة في فئة الشباب، الذين يرون أن البلاد لا توفر لهم الحد الأدنى من مقومات الحياة. كثير منهم يُفضل خوض البحار، أو العمل في مهن متواضعة في دول الجوار، على البقاء في وطن لا يمنحهم فرصة للعيش بكرامة.
النتيجة: نزيف بشري ومهني متواصل، يُضعف البلاد أكثر فأكثر، ويفرّغ المجتمع من طاقاته المنتجة.
ماذا عن دور الحكومة؟
رغم الاعتراف الرسمي بوجود أزمة بطالة، فإن الإجراءات المتخذة لمعالجتها لا تزال متواضعة، ومن أبرز أوجه القصور:
-
غياب خطة استراتيجية وطنية للتشغيل.
-
ضعف برامج دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
-
تعقيدات الروتين الإداري في تسجيل الأعمال.
-
ضعف الربط بين الجامعات وسوق العمل.
-
غياب الاستثمار في القطاعات القادرة على خلق فرص عمل كثيفة، مثل الزراعة والصناعة.
الطريق إلى الحل: ما الذي يمكن فعله؟
لا يمكن تجاوز أزمة البطالة دون مقاربة اقتصادية وتنموية شاملة، تبدأ من:
1. إعادة تفعيل القطاعات الإنتاجية
خصوصًا الزراعة والصناعة، عبر حوافز استثمارية، وتسهيلات مالية، وتوفير البنية التحتية.
2. إطلاق برامج وطنية للتدريب والتأهيل
لإعادة دمج الشباب في سوق العمل، وتأهيلهم لمهن حقيقية يحتاجها السوق.
3. دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة
بتمويل ميسر، ومرافقة قانونية، وتشجيع العمل الريادي، خصوصًا بين النساء والشباب.
4. إصلاح النظام التعليمي
وربط مخرجاته بسوق العمل، مع التركيز على التعليم المهني والتقني.
5. إشراك القطاع الخاص في خلق الوظائف
عبر حوافز ضريبية، وتسهيل إجراءات الترخيص، وتشجيع الاستثمار المحلي.
الخاتمة: العمل حق لا حلم
في النهاية، العمل ليس ترفًا، بل حق أساسي من حقوق الإنسان، وركيزة لكل نهضة اقتصادية واجتماعية. الشاب الذي يُحرم من العمل، يُحرم من الأمل، ومن الحياة نفسها.
إذا لم تتحرك الجهات المعنية بجدية لاحتواء أزمة البطالة، فإن سوريا ستخسر أغلى ما تملك: شبابها، وطاقتها، ومستقبلها.